الكلمة التي تسقط من فمك، سيلتقطها غيرك ويبني بها قصيدة عشق فاخرة. وما لم تتشبث بالكلام النقيّ، وما لم تزن ثُقلهُ، لن يستقيم لكَ دربٌ ولن تبلغَ خطواتك غاية المسعى. ذلك لأن الوجود مخبوءٌ في جوهر الكلمة، وسرّه مدفونٌ في انبعاثها منك. وأنت، أيها البشري المسكون بالشك والأسئلة، لن تجد الحقيقة بانتظارك عند ناصية الطريق السهل. ولن تدرك غاية وجودك ما دمت أسيراً للغفلة وجليسها.
يولدُ البشرُ أسراباً ويحشرون حشراً في قطعانهم مساقين بالأوامر والنواهي والشروط. لكن الذي ينخطف قلبه بفكرة الحرية، أو الذي ينشغف بالعشق ويحاول أن يفرد أجنحة الخيال ليحلق بعيداً، لن يرضى بحياة عادية داخل حظيرة الروتين حتى لو كانت حياةً مطمئنة. ذلك لأنه وُلد كي يشق ستارة العتمة ويمنح للضوء مساحة جديدة. وما كبرَ يركض باتجاه الشمس، إلا لتنغمس روحه في لذّة الاكتشاف. خذ قلماً، وجرّب أن تحفر اسم حبيبتك على الغيم، وسترى أن البرقَ يصير حبرك، والرعدَ، وهو غناء نداء كنت تكتمه في ليالي الصبر، يصيرُ صوتك الجديد الواثق والمستمر. أو خذ ريشةً، وارسم بها قوس قزح ينزلقُ عليه الأطفال في عيد الحياة التي تتجدد كل لحظة، وينبغي أن تعاش بفرحٍ دائم كل يوم.
هي خطوة واحدة فقط، بعدها تتفتحُ الدروب، وتنشقُّ الجبال، وتنحني لك الأشجار إذا مررت عليها عازماً أن تصطاد ذيل النهاية لتقصّه وتصعد ظهرها لتنال فخرك. وعند كل منعطفٍ سترى أن الخوف يتربص بك، لكن قلبك يهزمه بالنية الصادقة. وستسمع الجبناء ينادونك: عد وإلا سيأكلك الهلاك. لكن الذي يشدّك نحو الغايات العظيمة أقوى من وهن أصواتهم. هكذا تُدركُ الحقيقة، فلا تستمع لمن وصفوا دررها بالجمر، ولا من سيجوها بأسلاك الوهم وقالوا: هيهات تعرف ذاتك.
كان الفيلسوف رجلاً عادياً يجلسُ متأملاً على صخرة في الطريق. لكن نسراً رماهُ بحجرٍ فأيقظ شعلة السؤال في قلبه. وحين همّ بصعود جبل المعرفة، تقطّع نعله عند السفح، ولدغته أفعى الشك، وبثّت الريحُ غبارها في عينيه. لكنه تحصّن بالورقة يتخذها مرةً جسراً ومرةً سريراً لأحلامه الزرقاء. وظل يتوكأ بالقلم، يكشُّ به المحاذير، ويطعنُ به ضواري الخوف لتبقى في جحورها. وحين وصل إلى القمة، أدرك أن نشوة الوجود ليست في هزيمة المستحيل، وإنما في صنعه. وها هو من الفيلسوف صار حبراً في الكتب العظيمة، وخطوة في كل إنجاز عظيم.