قيل الكثير عن الكلام، أهميته وكيف غيّر حياة الإنسان منذ البدايات، منذ الإنسان الأول، وكيف أصبح بعد البلبلة كائناً آخر، كيف ارتقى وصار بالكلام ينتج ويصنع ويدير أمور حياته، كيف انتقل من ذلك المتوحش والصامت الذي لا يعرف كيف يستخدم لسانه، كيف ارتقى ومضى بلسانه يفلسف ويتحدث ويقول الشعر ويكتب الكثير من القصص والروايات، كيف صار يدوّن تاريخه وأسطورته، كيف ارتقى بالكلام إلى إنسان.
من هنا نعود إلى الكلام وكيف أصبح يستخدم في الصالح والطالح؛ انتقل من الصمت الطويل إلى معرفة الكلام، ولكن تلك الحروف والكلمات واللغات صارت وبالاً عليه، وبالاً لا يطاق، وبالاً حتى أحدثت تلك الحروف والجمل الخراب الحقيقي في حياته، كيف أصبح الموت قراراً يأتي من اللسان، وانتهت بالكلام حضارات، وكيف أصبحت الكلمة شرفاً وقيداً، كيف نما منها الخداع، وسرى الكذب كحقيقة؛ فيما الحقيقة بقت وحيدة منبوذة، كيف طعن الحب وكيف تفشت العنصرية والتحييد والإقصاء.
في الحياة أصبحت تجرحنا الكلمات بل ربما تقتلنا؛ في الجانب الآسن من الحياة يكثر الكلام المبعثر والخارج بلا هدى من اللسان، حيث ينعدم التفكير في الحرف والكلمة؛ كلام يندلق دون وعي ولا إدراك فيما يجب أن يقال وما لا يجب أن يمر حتى على اللسان؛ حياة فيها من كلمات الغدر الكثير ومن المرض الكثير، كلمات تمر وتترك الكثير من الجروح والخدوش التي تسببها للآخرين ظاهرة ولا يقدر الزمن أحياناً على محوها.
في الوقت الذي تتحول فيه الكلمات إلى رصاصات قاتلة يتراشقها المهووسون في الفضاء الافتراضي وفي الحياة العامة، يطلقها بعضهم دون اكتراث للأذن القريبة من الشفاه الناطقة أو المطلقة كلمة فيها الكثير من القبح والتجريح.
في هذا القبح، هناك في المقابل الكثير ممن يعملون على تصحيح حروفهم وكلماتهم بشكل دائم، إنهم يشتغلون كي تخرج الكلمات ناصعة جميلة ترسل بمرورها إلى الأذن السعادة والفرح، كلمات تشع وتنشر التفاؤل والمحبة والصداقة والأخوة بين البشر، كلمات يعرفها جيداً أولئك المنتمون إلى أخلاق البيوت الطيبة الراقية، حيث يتربى اللسان على أن ينطق أدباً وأخلاقاً عالية، وهم كذلك من ينتمون إلى حقول الفن والجمال الحقيقيين.
ذلك لأن المراقبة اليومية لما يسقط في الأذن أو تقرأه العين بين العامة، فيه قبح كثير، فهل ينتبه من ينطق بالسم لسانه أن يبحث عن ترياق ينجي روحه المعذبة في جسده، وأن يكف لسانه عن أذية الآخرين.