ضاقت، وفي فَرَج الأيام اتساعها، واستحكمت حلقاتها، ولكن في الصبر انكسارها، وفيه تبدد سطوة القيد منها، فيا عابد الفكرة قف، لا تجرجر حبالها لأنها ستصير مشنقتك. ولا تتأفف إذا استعصى عليك الدرب، تخطو كأنك تخط في عدمٍ طويل وأنت غايتك التلاشي. وتمشي، كأنك واقفٌ على نارٍ تحركها الأسئلة. والفكرة إنما تتلاعب بك إذا ماعت وانفلت ماء لبّها من راحة يدك. كأن تقول: أحب المرأة التي تداوي جروحي بالملح، وجروحك في الأصل منها. أو أن تسكب كلامك كله في بوقٍ مثقوب ولا أحد يفهم بعدها معنى حشرجاتك. ولا المرأة في لحظة أنسها، تغلّف حزنك بأشواكها. وسوف يُكتب عليك العذاب غفلةً بعد غفلة، وربما ركلتك أحذية النسيان إلى أرصفةٍ لا تعبر قربها القطارات، ولا يقطنها المشاةُ الذاهبون إلى اكتشاف المجهول في أقدارهم.
أحبُّ لو يسيح دم كرامتي وهي تناديني: تعال، ولا أذهب، ولا أهتف لها من بعيدٍ: تعالي، لأني أقدّس المسافة التي تفصل بين اثنين ضدين وهي في الأصل عدم، وأقيس بمسطرة الوهم الفراغ الشاسع بين القلم والورقة، فأراه اختصاراً لرحلة انقلاب المعاني وهي لا تنقلب أصلاً، وأراه في البدعة التي اسمها الحقيقة. لكن الناس لا يصدقون إلا ما يشاع، وإذا جهلوا فكرة الضوء ربما نعتوه بالشر. كأن يرى أحد النار ليلاً فيظنها لسان الشيطان ويذهب ليطفئها بالبصق عليها حتى الصباح.
تعالي لنعدّهم. الجهلة الذين رموا أحذيتهم في نهر الصمغ وصعدوا جبل المسامير لرؤية الشمس، لكنهم فطسوا قبل أوان غروبها. والمرتجفون أمام العصا، والخانعون لنغمة الخوف، وشاعرٌ كسا لحمه ريش العطايا فصار يناطحُ ظلال الطواويس حتى تآكل صوته واختفى. ولا تغتسلي بالمطر لأن زواله أسرع من وعده. ولا تصفقي لي لو نطحتُ ثور العناد، فأنا هشٌّ في صلابة الحب، وأوراقي لا صباح لها.
أمطٌّ من جهتي حبل المسرّة، ويمطه من جهة الظلام حُرّاسها. إنها الفكرة الحرة، كلما سرّحت شعرها الطويل في الريح، تكسّر مشطها الخشبي. وكلما ألبستها أجنحة الخيال وقلت لعبدها: طر. تهاوى وأوى إلى ركن ذلٍ يرتضيه. وكأنما كتب عليّ أن استبسل من أجل اللحاق ببصيص الضوء إذا تلاشى. وكأن الحب، كلما هدهدتهُ تنمّر، وسقى صحن انتظارك بجمرٍ أشدّ من السؤال. وليت، مع ذلك، زمانها يرضى.