في اللحظة المباغتة، شعرت أن الأرض مادت، وأن الجبال مارت، وأن الأشجار لملمت أثاثها بسرعة فائقة وغادرت المكان، وأن الطير كف عن الرفرفة، وأن الغابة التي خرجت منها كل الكائنات قد توارت خلف حجب الوحشة، وأن وجوه النساء قد اكتسحتها الأقنعة، وأن أيديهن لبست قفاز النفاق، وأن عيونهن قد برزت من وراء النقاب الأسود، وبدت مثل نجوم منطفئة، وأن ثغورهن ذبلت، وبدت مثل أنهار جافة، وأن قلوبهن وجفت وارتجفت، وبدت مثل قارات مهجورة، وأن صدورهن خوت إلا من أضلاع برزت مثل عراجين قديمة.
في اللحظة المداهمة شعرت بأن الوجود يخلع ملابسه، ويتعرى البحر من زرقته، والغيمة التي كانت تظلل وجهي قد فارقت الحياة، والنجمة التي كانت تخرس نظارتي قد أطفأت الأنوار، وانكفأت، مختزلة الزمان والمكان، وأن الزقاق الذي مررت فيه ذات لوعة، قد أغلق فضاءه، ولم يعد يحتفي باللواعج، وأن الباب الذي كنت تطلين من خلاله قد صدأ مزلاجه، وأن الابتسامة التي كانت تشع بين نهرين عظيمين، قد لفت لفيفها، وطوت سجلها، وأن اسمي الذي كان يرد ماء شفتيك قد عبست حروفه مثل محارات الأزلية، وأن القميص الذي كان يشم رائحة العطر من بساتين الله قد غيّرت لونه شمس البهتان، وأن الخاتم الذي طوَّق إصبعك تخلى عن بريقه، وأن السوار في معصمك بهت، وضاقت به سبل البقاء، فتسرّب مثلما تسرّبت أشياء كثيرة، ساعة جنون الزمان.
في اللحظة التي قلت فيها، هل ما زلت تحبّني، خرج كل الطواغيت من قبورهم، وأثارت خيول الدهشة نقعاً، وشعرت بأن الوجود يدخل في معطف الجاهلية من جديد، وأن داحس والغبراء، تعيدان كرّات حروبهما الدامية، وأن سقراط يشد شعر رأسه، ويتبرأ من عالمه، وأن كل فلاسفة الوجود يتذمرون، ويتبرمون، ويهتفون بصوت واحد، قائلين: هذه مهزلة، أن تسأل المرأة من أحبها، عن حبه لها.
الحب مثل البريق في عين الطير، الحب مثل العطر في أكمام الزهر، الحب مثل العفوية في صدور الأطفال، الحب مثل الجمال في أنوثة المرأة، الحب مثل الماء بين شفتي امرأة عاشقة، الحب مثل السهر في شغاف النجمة، الحب مثل الشفافية في غشاء الغيمة، الحب مثل القدر، قائم ولا زوال.