حين لمحت جواز السفر بيدي وأنا أقدمه لها، ابتسمت بفرح لا مثيل له، وقالت هل أنت قادم من أبوظبي؟ قلت نعم بما يتناسب وحجم الفرح المطل من عينيها. راحت تداعب صفحات الجواز، وتضعها على شريحة زجاجية، ليخرج لها مشعاً دون خدش في السيرة الذاتية، أو أية سوابق، ثم أعادته لي كما لو أنها أعادت الترحاب مرات عدة، وتركت في مخيلتي ابتسامتها، كما لو أنها منحتني أثينا بتاريخها العريق، بمعابدها وحضارتها وشموخها.. هل يحضر سقراط بفلسفته الروحية حين ينأى بجسده بعيداً، أو تحضر أثينا في صمته الأبدي، حافية الأقدام، تسير في فقرها، وفي بقايا بنائها المتهدم، المنحوت في فصول زمنية، تحفظ دروسه الفلسفية؟، هل أوصل سقراط مواطني أثينا إلى الكمال الأخلاقي، أم تركهم أمام توهج الأساطير؟
ترى وجه أرسطو متمثلاً في وجه امرأة مجنونة تخطو حافية تنازعنا في وجودنا، أو تمرر جنونها أمام الحديقة الوطنية الخرافية بأطلالها، وأمام حطام المباني الأسطورية، التي تسرد سيرة حضارة شعب كريم وطيّب. لا أحد يتحدث عن الأدب والموسيقى إلا تسمو بدلالاتها هنا وهناك، مشعة بما يكفي الحضور الذهني.. ثم يباغتك سؤال: هل افترع التاريخ من الطين الألعاب الأولمبية لكي تنطلق من منظورها الإغريقي نحو اكتشاف العالم رياضياً؟
في حضورها لا تنأى أثينا عن ماضيها المكتنز في العلوم والرياضيات والثقافة، ثم تبتدرك بلغة إغريقية يصعب عليك فك أسرارها، لكنها تفتح لك قلبها من خلال التقنية الحديثة، فتقودك إلى مناطق خارج المدينة، حيث بأنك تجتاز زمنين، ففي المدينة تتكدس الآثار وخارجها تزهو سفوح الجبال والبيوت الناصعة، وفي الفضاء الجامع بين المكانين تتبع رحلات أرسطو وسقراط وفيثاغورس الفلسفية.
أثينا الجميلة لها سحر الشرق العريق ذو الإرث الأسطوري، وحكايتها مع الغروب تستحق التجربة، فمن أعلى قمة ترى توغل شمس الحضارة إلى أبعد ما تكون أعماق البحر، تفتح أبوابها كالقلب إلى الداخل تنبئ باشتعال فتيل الشموع لكي تنير طريق البائسات المتشردات بالهذيان الليلي.
تقف أثينا على أعتاب الحياة، وتحمل بيديها شمعة أساطيرها وخرافاتها وملاحم هوميروس وترانيمها الشعرية وفنونها التراجيدية، تتمسك بعاداتها القديمة في الزواج وطقوسه الغريبة والاحتفالات والمناسبات التي تجدد الماضي كل يوم، وكأنها استعادة لحقب زمنية غابرة، لكنها ما زالت ترسم يوميات ناس المدينة.