من يتأمل الجغرافيا العربية يشعر أنه أمام سجادة قديمة، تبدو ملساء، ولكن ما أن يتم نفضها، يتناثر منها الغبار الكثيف، وحشرات نافقة، وطفيليات ونفايات تؤذي البصر والبصيرة.
في ليبيا، كما في تونس، كما في العراق وسوريا واليمن، هناك حشرجة كائنات تؤول إلى زوال، لأن السجادة كانت قذرة، ولأن ما كانت شبه أوطان آلت إلى فتات ومزق، وطرائق قدد، وحشود من الطوائف والملل، ولعب البوح السياسي الأحمق دوراً محورياً في التفتيت والتزييف، وباءت الشعارات القديمة إلى فشل ذريع ومريع وفظيع، وتحولت التيجان إلى هيجان أمواج عصابية وأمراض ذهانية، وصراع ثيران إسبانية. أوضاع تثير الفزع، عندما ترى بأم عينيك، أوطاناً تتنازعها رغبات وانفعالات، من نسل عصور الغاب، أوطان تغيب عنها الشمس، وشعوب تتسلح بالخوف، وتغادر مثواها، وتعبر البحار والخلجان طلباً للنجاة من نار الفقر والمرض، وهرباً من انتهاكات طالت العرض والأرض، وحروب لم تبق ولم تذر، لأن الساحة فتحت على آخرها لمرتزقة السياسة مثل مواقد أحرقت حطبها، وأكلت رمادها، وطاردت دخانها. في هذا الزمن الذي كان أحدهم يصرخ بشعار (أمة عربية واحدة، ذات رسالة واحدة)، اليوم تعددت الرسائل، وشاهت عناوينها، وتاهت أحبارها وسط الدخان، وفي معمعة الانهيارات الأرضية التي أصابت الزرع والضرع، ولم يبق سوى الأدعية في محاريب الكذب، ولم يبق سوى (حمل كاذب) تتأسى به الشعوب، لعل وعسى، وعسى هذه أصبحت قنابل موقوتة وأحزمة ناسفة، تنسف، وتخسف، وتكسف، وتجدف، وتحرف، وتخرف، ولم ندخر من التاريخ سوى القاعدة، ومن بعدها «داعش»، والله العليم ماذا ستجر لنا أمواج البحر المسجور من مسميات ما أنزل الله بها من سلطان. عندما نسمع الحديث عن العدو في شمال ليبيا، تقشعر أبداننا، ونصم آذاننا، ونغمض أعيننا، كي لا نسمع المزيد مما يؤذي إحساسنا ويجرح مشاعرنا. صراع أجندات لا يراعي حرمة وطن، ولا يلتفت لما يعانيه الملايين من البشر الذين أصبح البحر ملاذهم، والفراغ مأواهم، والعدم طعامهم، والموت مصيرهم. صراع على اللاشيء، فلم يبق في هذه البلاد ما يستحق الصراع لأجله، سوى الأنا المحتقنة، والذات المتورمة، التي لا تقبل إلا بكتلة، والجحيم الباقية من الإرث القديم.