استوعبت الشعوب العربية الدرس جيداً. ولم يعد ممكناً خداعها بالأجندات المريبة، ولا بالتشكيك في مطالبها الاجتماعية الأساسية، ولا حتى بتخويفها بمصائر الآخرين. وهي حين تنشد الخبز والأمل، تسأل عن عقود من الإخفاق التنموي، وتريد الحد الأدنى من الحقوق المشروعة، وعلى مَن تعود على ركوب الأمواج في تحركات الشعوب العادلة، أن ينظر خلفه، ويرى أن البلدان نجت، أو تكاد، فيما هو يغرق وحده.
السودان، بوعي شعبه، وبتجاربه الطويلة في التعامل مع الأزمات، سيعبر هذه المرحلة بالخيار الذي يراه مناسباً، وحوله على امتداد الخريطة العربية كثير من الدروس، وأقربها إليه في وادي النيل، حيث تسلق التطرّف وجماعاته على أكتاف الشباب، وأحلامهم، وسعى إلى تحويلها كوابيس من ظلم وظلام، قبل أن يستدرك المصريون الكارثة، ويتبينوا الزيف من الحقيقة، ويقرروا مصير بلادهم، على النحو الذي نراه الآن، من عودة مصر إلى دورها القيادي في العالم العربي.
السودان في عهدة جيشها الوطني، والمؤسسة العسكرية والشارع متفقان على الانتقال إلى حقبة مدنية من الحكم. الأولوية للأمن الآن، ولقراءة ما يريده السودانيون من مستقبل، والبلاد تعيش حالياً توحداً وطنياً ملحوظاً، وهذا يعني أن المخاوف التي رافقت حركات الشعوب العربية في السنوات الماضية، في حدودها الدنيا، فالتطرف لا ينفذ إلا من الفوضى، أو من وضوح حاضناته الاجتماعية وجاهزيتها، أو من استغلال الممولين الجاهزين للخراب.
الحذر السوداني المأمول يكمن في الانتباه إلى مواقف وتحركات الدول المعروفة في الإقليم بتبني أجندات الجماعات الإرهابية، وفِي مقدمتها «الإخوان المسلمون» وخلاياهم المستيقظة والنائمة، وقد باتت للتطرف قواعد، تعرفها جيداً طهران وأنقرة والدوحة، ولدى هذه العواصم ما يكفي من الدوافع والخبرة في تحطيم آمال الشعوب، وتخريب بلدانها، من الجارة مصر، إلى ليبيا القريبة، والأمر نفسه في العراق وسوريا واليمن.
الحذر يجب أن يبدأ من الآن، فهذا حزب «العدالة والتنمية» التركي، يسارع إلى ما تعوده، وما يعرفه جيداً. أعلن أن «مطالب الشعب السوداني هي مطالبنا»، وتحدث عن قلقه من «حرب أهلية»، وهذا كلام كررته أنقرة دائماً، ولَم تفعل شيئاً واحداً ضده، وهي تواصل مع حلفائها دعم «الإخوان المسلمين»، واستضافة قادتهم، الذين حرضوا على الإرهاب ورفع السلاح في وجه الجيوش الوطنية. ثم إن السودانيين هم الأقدر على قراءة مشهدهم والتعامل معه، والحروب الأهلية، كما نعرفها في الأعوام الماضية، لم تكن إلا بسبب انهيار الأمن، وتكاثر الإرهاب.
الحذر واجب، عندما تعلق طهران رسمياً، بأنّ ما يحدث في السودان «شأن داخلي»، وتقول حرفياً إن «السياسة المبدئية لإيران تقوم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى»، وخير من يشرح للأشقاء في السودان صدقية هذا الكلام الدعائي، من عدمه، هم الأشقاء السوريون والعراقيون واليمنيون، فطهران أنفقت على التدخل العسكري المباشر في دول عربية، ما ينقذ شعبها من أزماته الاقتصادية المتتالية، ولا حاجة لمزيد من الإيضاح، عن ما عانته الشعوب العربية من الهيمنة الإيرانية، فالمشاعر القومية القوية في السودان تميز الحقائق من الأكاذيب.
أيضاً، ثمة كيانات صغيرة ضالعة في الحشد والتحريض والتمويل، ولا نشك في أن الشعب السوداني واعٍ لخطورة إعلامها وأموالها وعلاقاتها الوثيقة مع التطرّف والإرهاب. فقطر، تبحث عن مكان جديد لفلول التطرف، وفِي سبيل ذلك، تسخر كل عوائد الغاز، وماكينات دعايتها، وقد بدأت فعلاً باتجاه هذا المسعى.
ما يحتاجه السودان الآن هو الأمن، والجيش يتولى مسؤوليته وواجبه، ومن الواضح أنه يصغي جيداً إلى صوت الشارع، ويراقب توحد السودانيين حول عملية سياسية باتجاه أهداف وطنية، تسير بهم إلى الاستقرار والتنمية، وتمنع راكبي الأمواجِ من الاقتراب من وادي النيل.