تكبرُ مساحة الضوء والحرية في الأوطان باتساع أفق الثقافة والفنون فيها. كل لوحة أتقنها رسّامها، هي نافذة نبحرُ فيها للبعيد والمدهش والمطلق. ننطق فيها بلغة اللون ونترك للخيال أن يسبح على هواه في بحرٍ من اللذة الحسية العميقة التي يثيرها امتزاج الألوان وتداخل زوايا الضوء والظل. وأمام اللوحات، تتوالد عوالمٌ، وتتفتح آفاق، وتستفيق رؤى جديدة، منبعها حب الجمال وتذوّق روعته، وحب الركون والسكون فيه.
ومثل اللوحة، هناك القصيدة التي يتدفق نهرها من نقطة عميقة في الوجدان ليروي جوارحنا ويغذي شغف تطلّعنا إلى المدى اللانهائي. كأن عين الشاعر ترى ما وراء هذا الأفق الضيق وتقرأ أسرار ما فيه. وفي القصيدة، تركضُ طفلةٌ في يدها غصن الأمل، وتكتب على جدار الزمن اسم وطنٍ يغارُ الذهب من كل حبة رملٍ فيه. ومن تداخل الدلالات والصور البديعة، يتحول النص الشعري إلى عرسٍ خرافي عندما يكملُ القمرُ استدارته كأنه حبّة لؤلؤٍ عملاقة والشعراءُ تحتهُ يُزفّون في طوابير إلى نور الورقة. وحين يكبر صوت الشعر تصبحُ الأوطان أغنية فرحٍ تُكحّل عين الزمن، وتجملُ وجه معانيه.
الجلوس أمام ستارة المسرحٍ، هو هدمٌ لفكرة الجدار. وهو إعلان انتماء للدهشة باعتبارها سيرة ما نراه ولا نُدركه. وحين تفتحُ هذه الستارة، فان المسافة الفاصلة بيننا وبين الممثل، تصبحُ إلغاء لقيد الزمن. كل كلمة تقالُ في المسرح، وكل إيماءة، هي في الحقيقة ميلاد لغةٍ جديدة للجسد الذي تُكبّله الأعراف ويسجنه التردد ويحاصر لسانه الخوف. هذا الجسد الحر على خشبة المسرح، هو رقصةٌ على أنقاض العدم، وانفلاتٌ للروح خارج ثقلها. هكذا نرتفع سبعُ درجاتٍ في سلّم الضوء كلما ولجنا إلى المسرح وشربنا من عذوبة فيضه وجمال الفضاء الحر فيه.
لقطةٌ واحدة آسرة في فيلمٍ سينمائي بإمكانها أن تزيح الكلس الذي يصيب الوجدان ويُغلقُ مساحة الرؤية فيه. والسينما هي عين ثالثة نرى بها الوجود من الزوايا كلها. وحين تصبحُ السينما تجسيداً لأحلامنا، تتآكلُ تدريجياً لحظات السأم، ويولد مكانها توقٌ جارف للقفز فرحاً بهذا الوجود. ما أروع الجلوس أمام الشاشة الكبيرة التي تفسّر لنا لغز الحياة. المجتمعات التي يتوازى فيها الواقع السينمائي بالواقع الحقيقي هي التي تمتلك القدرة على تجاوز وهن الذات وغفلة الطريق. هكذا نتجمّل بالفنون لتصبح حياتنا ألقاً في ألق.