بمناسبة احتفال توزيع جائزة الصحافة العربية في دبي بالأمس، تذكرت حادثة جرت قبل سنوات، يومها إما كنت على سفر أو قادما من سفر، ما أدري أنني لا أملك غير ذاك الثوب الأبيض الرسمي الذي على جنبي لحضور حفل توزيع الجائزة، وما في الحقيبة التي تستقر في غرفتي إلا ملابس «كاجوال شغل هتليه»، يمكن أن تكون مناسبة جداً لو لبستها في سفرة إلى المكسيك مثلاً، وبدلات بائسة لامعة مقلدة على علامات تجارية مشهورة، لا تشي بغير سعرها الزهيد، ولا تصلح لهيبة المكان، كنا ننتظر قدوم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، فجلسنا نحن أعضاء مجلس إدارة الجائزة في ركن قصي نتحادث، و«نكزّر» الوقت، فأصر المدخنون منا - وهم كثر- أن يحتسوا قهوة، ويولعوا «كم صلب» سيجارة، فما زال هناك قرابة الساعة على مقدم سموه، فجاريتهم في طلبهم، رغم أني لا صاحب قهوة وهيف، ولا صاحب كحة وكيف.
بادر بخدمتنا شاب لطيف، ظريف، غير أنه في خدمته غير حرّيف، هكذا كان الانطباع الأول عنه، فعمره لا يوحي بأنه تدرب كثيراً، وشكله لا ينم عن ثقة بأنه يعرف حتى الفندق، أخذ الطلبات على عماها، وانصرف، واستعجله المدخنون، لأن صلب السيجارة لا يجوز دون قهوة كحلاء أو سوداء، تركية أو أميركية، وانبريت أنا بطلب كنت أعده تحيزاً للثقافة الفرنسية، «كافيه لاتيه.. لي نوازيت»، فطالعوني بعيون مبغضة، وقالوا: خل الدلع هناك، ترا ما عندنا وقت، ولا شيء سيؤخرنا، ويؤخر علينا قهوتنا إلا «لي نوازيت مالك»!
غاب النادل دقائق، وإذا به يطل من بعيد فلمحته، وجاءت عيني في عينه، وتوجست منه خيفة، وهو طبع في الإنسان المتوجس الذي «يحاتي»، فجاء مباشرة إليّ، معتقداً أن نظرتي له من بعيد، تعني إلحاحي ولهفتي على فنجان القهوة، فتقدم بيد مرتجفة، وعدم ثقة في النفس واضحة، أرجعتها إلى أنه ربما جديد هنا، وربما الحرفة، فأصابعه توحي بأنه درس كمبيوتر في بلده، ولكن ضيق ذات اليد أتت به هنا ليعمل نادلاً أو ربما أنه من النوع الخجول، ويلازم الإنترنت أكثر من الأشخاص الحقيقيين، وربما أنه يتهيب لقاء أناس بدوا في ذاك الوقت أنهم مهمون، ولهم بعض الهيبة، خاصة أن معظمهم كان يضع ظاهر كفه تحت ذقنه، ويومي بهزات من رأسه.
تقدم الشاب نحوي، فطلبت منه أن يقدم القهوة أولاً إلى رئيسنا خلفان الرومي، رحمه الله، فهو أكبرنا سناً وقدراً، ومن ثم «النائب» محمد جاسم الصقر، والأخوة كلهم أكثر مني مقاماً، وأنا أطولهم مقالاً، فارتبك، وظل «يشالي» من هنا وهناك، وبين قهوة معالي الوزير التركية، وقهوة غسان طهبوب الأميركية، وشاي محمد يوسف «السنكين»، رقصت تلك الصينية المعدنية اللامعة حتى استقرت على كتفي، فزّيت متجنباً السخونة، ولكن ثيابي البيضاء، أصبحت خريطة أفريقيا.. ونكمل