الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

إيران تأسر القرار العراقي بقبضة الميليشيات

إيران تأسر القرار العراقي بقبضة الميليشيات
17 مارس 2019 00:00

رشا العزاوي (أبوظبي)

باتت الميليشيات الإيرانية في العراق بتدخلاتها في المنطقة والعالم، تشكل تهديداً كبيراً على علاقات بغداد الخارجية، بما يقوض النهج الذي أعلنت عنه الحكومة العراقية بالتزامها سياسة الحياد وعدم التدخل في شؤون دول المنطقة.
جزم مراقبون مختصون في الشأن العراقي والإيراني لـ«الاتحاد» بأن تهديدات هذه الميليشيات لم تعد مقتصرة على الداخل العراقي وحده بل إنها تهدد المنطقة برمتها، مستشهدين بتدخل ما يسمى «حركة النجباء» و«ميليشيا عصائب أهل الحق» الإرهابيتين في الشأن البحريني، واليمني، والسوري أيضا.
ورأى المراقبون أن إيران تسعى لمواجهة الولايات المتحدة عسكرياً على الأرض العراقية، بأيدي وسلاح ميليشيات عراقية تتولى تنفيذ هذا المخطط، وأن الزيارات الإيرانية المتتالية إلى بغداد لا تهدف سوى إعادة هيكلة صفوف الميليشيات المؤيدة لهذه المواجهة، وشدد المراقبون على ضرورة تحليل الخطاب السياسي العقائدي لتلك الميليشيات وإيضاح حقيقة نواياه المرتبطة بالمصالح الإيرانية، مؤكدين أن استمرار صمت وتجاهل الحكومة العراقية لسلوكيات تلك الميليشيات سيدفع بالعراق عاجلاً أم آجلاً لمواجهة عسكرية جديدة لا ناقة له فيها ولا جمل.

الحيادية محل شك دولي
وقال الكاتب والمحلل السياسي العراقي رعد هاشم: «إن هناك تناقضاً كبيراً بين المواقف العراقية على أرض الواقع والتصريحات الصادرة عن الحكومة العراقية حول القضايا الخارجية، بسبب سطوة الحراك الميليشياوي المهيمن على الشارع أمنياً، والذي بات للأسف يسعى للهيمنة على مواقف العراق الخارجية، ولطالما حذرنا من أن صوت السلاح سيفرض نفسه على القرار العراقي الرسمي في المواقف والقضايا العراقية السيادية». وأكد أن تلك الميليشيات تواجه رفض الشارع العراقي والعقوبات الدولية والإقليمية المفروضة عليها والانشقاقات الداخلية التي تعيشها بإجراءات عدة منها، تعزيز فرض الهيمنة بالسلاح، وإعادة الهيكلة الداخلية بالقضاء على جميع الأصوات المعارضة للسياسات الإيرانية في داخلها، موضحا بالقول: «نلاحظ بأن تلك الميليشيات أطلقت مؤخرا ما بات يعرف بـ«حملة القضاء على الهيئات الوهمية التابعة للحشد الشعبي»، وتشكل هذه الحملة شماعة جديدة لسلوكيات الميليشيات الإرهابية وتمنح إيحاء بأنها تعمل على تعديل سلوكها اللامقبول دوليا لتخفيف الضغط الخارجي».
وأكد هاشم أن معظم قرارات ميليشيا الحشد الشعبي وخطواتها فردية وغير خاضعة لأوامر رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، وما انفك قادة الحشد وممثلوه في البرلمان، تبني مواقف سياسية تناقض توجهات وقرارات الحكومة، لدرجة أوقعت العراق في حرج سياسي كبير، كون البلاد باتت تضم في حكومتها فصائل مسلحة تمتلك أجندة سياسية يرتبط جلّها بإيران، مضيفا بالقول: «باتت تلك التوجهات تقدم بوصفها مواقف عراقية رسمية وهذا يشكّل تناقضا ومغالطة تعسر من عودة سيادة القرار العراقي بما يصب في مصلحة العراق أو يجعله على أقل تقدير بعيدا عن إلحاق الضرر بنفسه، فهذا الحشد المتهور للميليشيات المدعومة إيرانيا هو في حقيقته عرقلة إيرانية مقصودة لأي محاولة عراقية للاستقلال بالقرار السيادي، ومحاولة لسلب دور العراق العربي الذي يفرضه عليه انتماؤه وموقعه الجغرافي وكينونته الديمغرافية ليتحول إلى حائط صد إيراني يحمي النظام في طهران على حساب مصالح العراقيين.
واستشهد هاشم بالجدل الكبير الذي أثارته تلك الميليشيات ودعواتها لحمل السلاح ضد القوات الأميركية التي ترى الحكومة العراقية أن في مصلحة العراق بقاءها لضرورات أمنية ودفاعية وتدريبية واستشارية بحتة يحتاجها العراق لفترات قادمة، متسائلا عن القرار الحكومي أو التشريعي الذي استندت إليه تلك الميليشيات في إعلان مقاومتها التواجد الأميركي في العراق، وأضاف: «صمت الحكومة العراقية عن دعوات الميليشيات حمل السلاح ضد القوات الأميركية في العراق يجعل ادعاءها عدم تبني سياسة المحاور أو الانخراط في الصراع الأميركي الإيراني محل شك دولي، وشدد على أن تدخل الميليشيات في سياسة العراق الخارجية يقتضي أن تغادر الحكومة صمتها وتجاهلها لتلك الخروقات والتدخلات وتخطو خطوات جريئة تحد فيها من صلاحيات تلك الفصائل غير القانونية.

تدريبات الصواريخ
وكانت الولايات المتحدة أدرجت في الخامس من مارس الماضي ميليشيا «حركة النجباء» بالعراق على لائحة المنظمات الإرهابية، وصادفت ليلة إدراج الميليشيات منظمة إرهابية، زيارة قائدها أكرم الكعبي لمقر الإرهابي البحريني عيسى قاسم، عارضا على الأخير المساعدة المالية والعسكرية ومستعرضا عمليات الميليشيات في سوريا، في تدخل سافر في الشأن البحريني، وحركة النجباء كانت من أولى الميليشيات العسكرية العراقية التي أرسلت مقاتلين إلى سوريا، بل إنها قالت بأنها تشكلت لهذا الغرض في 2013 في تناقض واضح مع موقف الحكومة العراقية من الصراع السوري الذي كان يؤيد الحلول السلمية، وفي أبريل 2015 ادعى الكعبي أن جماعته تكبدت 126 إصابة بشرية منها 38 في سوريا، كما تورطت الميليشيات في جرائم ضد الإنسانية وانتهاكات سبق أن أكدها روبرت كولفيل المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في تقرير قال فيه: «إن ميليشيا حركة النجباء قتلت عمدا بالرصاص عشرات الرجال والنساء والأطفال أثناء معركة حلب»، وأضاف كولفيل في إفادة صحفية: «تلقينا تقارير عن قيام قوات موالية لإيران بقتل 82 مدنيا على الأقل بينهم 11 امرأة و13 طفلا في أربعة أحياء مختلفة».
وحركة النجباء هي التسمية المختصرة لما يعرف بـ «حركة حزب الله النجباء»، وتمتلك أجندة إيرانية معلنة، تدين بالطاعة والولاء لمرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي وهي حركة منبثقة عن ميليشيا «عصائب أهل الحق» الإرهابية المدرجة على لائحة الإرهاب، وكان رئيس حركة النجباء أكرم الكعبي قد شغل منصب نائب الأمين العام والمسؤول المباشر لعصائب أهل الحق، ومع اندلاع الصراع السوري المسلح كُلف الكعبي من قبل قاسم سليماني قائد ما يسمى «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني بتشكيل فصيل مقاتل في سوريا يكون تحت ظل العصائب، فأسس الكعبي ما يعرف ب (لواء عمار بن ياسر) مطلع، الجناح العسكري للحركة، ثم ما لبث الكعبي أن انتقل إلى سوريا ليشرف ميدانيا على عمليات ميليشياته محولا الحركة برمتها إلى ميليشيات عسكرية.
وتتبنى الحركتان «العصائب والنجباء» المواليتان لإيران مجموعة أسس تتقاطع مع المعتقدات التي تروج لها تنظيمات مثل «داعش» و»القاعدة» ومنها إقامة ما يسمى «دولة الخلافة» ضمن منظور عقائدي تؤمن به تلك الجماعات، كما تصف «النجباء والعصائب» نشر معتقداتها تحت قوة السلاح بـ«الجهاد»، وتؤمن بأن المعارضين لتوجهاتها وأسسها العقائدية كفرة يحتاجون إلى الإصلاح والتوجيه بالإرشاد أو السلاح كما الحال في «داعش» و«القاعدة». ولدى الحركتين ولاء مطلق لقائد ديني ولا يعترفون بالولاءات الوطنية. وبحسب تقارير سابقة تتراوح أسلحة الحركتين الإرهابيتين بين الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، كما أظهرت مجموعة مقاطع مصورة بثت عبر أذرع إعلامية تدريبات لقيادات «النجباء» في إيران على إطلاق وتصنيع الصواريخ، وأعلنت أيضا عن تسلمها صواريخ إيرانية الصنع نوع «فاتح» و«فجر»، وطائرات بدون طيار. كما أعلن قائدها أكرم الكعبي صراحة أنه يتلقى تمويلا من إيران في تصريح قال فيه: «نحن لا نخفي الدعم الفني واللوجستي من قبل الجمهورية الإيرانية لنا، وعلى كل المستويات من ناحية التدريب والتسليح، وتقديم المشورة من خلال وجود قادة ومستشارين ميدانيين من الإخوة في قوة القدس من الحرس الثوري. وقد أعلنا عن هذا الدعم لنا ولبقية فصائل المقاومة؛ من أجل تحرير العراق من الاحتلال الأميركي».
وتطلق الميليشيات الإيرانية في العراق مصطلح «المقاومة» على الفصائل التي تعارض الوجود الأميركي في العراق على الرغم من تأييد الحكومة العراقية له، كما تعد ميليشيا حركة النجباء أبرز الميليشيات المكونة لقوات ميليشيا الحشد الشعبي الإرهابية ولعبت دورا كبيرا في التغيير الديموغرافي الذي شهدته محافظة صلاح الدين العراقية التي أشارت أنباء صحافية في الأسابيع الماضية عن نية إيرانية لتقسيمها ديموغرافيا على أسس عقائدية، ولا يقتصر دور الميليشيات على العمليات العسكرية والتغيير الديموغرافي والتدخل في الشؤون الخارجية للعراق بل إنها تشرعن التواجد الإيراني العسكري في العراق وكان المتحدث الرسمي باسم الحركة قد وصف قائد قوة القدس الإرهابي قاسم سليماني بـ«بطل الانتصارات»، مطالبا الحكومة العراقية بإيجاد تشريع يبقي على ميليشيا قوة القدس الإرهابية في العراق بصفة دائمة.

تبعات الاستضافة
وحول تدخل الميليشيات الإرهابية في العراق بشؤون دول الجوار والسياسة الخارجية العراقية ومنها تدخل حركة النجباء الإرهابية في شؤون البحرين، أكد الكاتب والباحث السياسي البحريني عبد الله الجنيد، أن البحرين تعي تماما الحالة الخاصة التي يمر بها العراق، لذلك هي تتجاوز عن بعض تجاوزات العراق السياسي في حق البحرين كما تتجاوز بعض الدول الأخرى عن تلك التجاوزات مثل المملكة العربية السعودية إكراما لما يمثله العراق وأهله في الوجدان الخليجي والعربي، وأضاف الجنيد أن استضافة العراق لأشخاص مطلوبين أمنيا من قبل القضاء البحريني للأسف ليس بأمر جديد، فقد دأبت الفصائل التابعة للحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس على توفير ملاذات أمنية لهؤلاء الإرهابيين المطلوبين والغطاء اللازم لإدخالهم إلى معسكرات التدريب على السلاح في إيران وفي توفير مصادر التمويل لنشاطهم في الخارج والداخل.
وأضاف: «عيسى قاسم اختار العراق مقرا له لما يمثله الآن العراق من حاضنة طبيعية لمن هو منتم لتيارهم الراديكالي الإرهابي، وقد سبق لبعض هؤلاء الإرهابيين المطلوبين أن قضى نحبه مقاتلا في صفوف حركة النجباء وحزب الله- العراق في قتالهم في العراق وسوريا، وأكد الجنيد أن إعادة الاستقرار للشرق الأوسط هو مسؤولية الجميع، وعلى العراق الذي عانى من الإرهاب نتيجة الفراغ السياسي أن يكون أكثر الداعمين لعملية إعادة الاستقرار، إلا أن التحدي يكمن في قدرة العراق على تحقيق التوازن في علاقاتها مع دول جوارها أولا، فهي تدرك ما يمكن أن يحمله استمرار اعتبارها مليشيات طائفية صنفت كمنظمات إرهابية على أنها جزء من منظومتها الأمنية أو الدفاعية من تبعات، وكذلك هو الأمر فيما يتعلق باحتضانها تنظيمات وإرهابيين مطلوبين للعدالة من قبل دول جوارها، هل سيستطيع العراق في ظل العهدة الجديدة التعاطي بتوازن مع محيطه كما قال الرئيس العراقي برهم صالح أثناء مؤتمره الصحفي مع الرئيس الإيراني روحاني، ذلك أمر متروك لقيادة العراق السياسية، إلا أن دول الخليج العربية عازمة على الوقوف مع العراق وأهله في كل ظروفه.
تناسق استخباراتي مؤسساتي
وقال الصحافي العراقي عمر الجنابي :«إن هناك عملا مؤسساتيا متناسقا يتخذ عدة أشكال منها: الخيرية، الثقافية والعسكرية، ورسم هذا العمل مسبقا من قبل جهات استخباراتية إيرانية لتلك الميليشيات التي تدعي أن مواقفها نابعة من انتماء عقائدي بحت لا يتعارض مع مصلحة العراق، إن المؤسسات الإيرانية في العراق بجميع أشكالها تخفي وراءها الأهداف الحقيقية لتلك الميليشيات التي أثرت بشكل مباشر في النسيج الاجتماعي العراقي الذي كان يتقبل الآخر ويتعايش معه بسلام وحولته إلى مجتمع إقصائي عقائدي متشدد ينتشر فيه الجهل والتطرف الديني بسيطرة الخطاب الإيراني المتطرف على منابر المساجد التي تقاسمتها الميليشيات التابعة لإيران في العراق، وتحشيد الشباب والمراهقين من خلال المحاضرات والأناشيد والكتب والفعاليات المختلفة دون أدنى رقابة من الحكومة العراقية، فالمدن التي كان تنظيم «داعش» الإرهابي يحتلها، تستبيحها ميليشيات نشرت ما يعرف بالمكاتب الاقتصادية ودورها تحصيل الأموال والإتاوات كما كان يفعل «داعش» ومكاتب أخرى تعرف بالمكاتب العقائدية، وهي مكاتب مسؤولة عن إصدار الموافقات لإقامة الحفلات والمؤتمرات والتجمعات، ولم يقتصر التدخل الإيراني في العراق على الشارع بل تجاوزه إلى المؤسسات التعليمية والجامعات وباتت كلية الآداب بجامعة تكريت مستباحة من قبل أساتذة جامعة قم الإيرانية يعقدون هناك المؤتمرات والندوات التي تؤيد التمدد الإيراني في العراق.

علاقة معقدة
وقال أستاذ العلوم السياسية الدكتور هادي بن علي الأمين: «يُعتبرُ ارتباط الميليشيات الموالية لإيران ارتباطاً عقائدياً، وترجمةً عمليةً لعلاقةٍ عضويةٍ مع نظام الخميني في إيران، بصفتها، على تنوعها وتعددها وتماثلها، وليدةَ هذا النظام، ونتاجهُ وبضاعتهُ التي ربّاها وغذّاها وسلّحها وحامى ودافع عنها، ووضعها في موضع لا تستطيعُ بعده، التحلل من مسؤولياتها تجاهه، أي مسؤولية الترويج له والدفاع عنه وعن مصالحه العليا، من مواقعها المختلفة أكان في لبنان أم العراق أم البحرين أم سوريا واليمن، ولعل َّما يدعم نظرية الارتباط العضوي والعقائدي، هو معرفة الموقع الذي ابتدأت منه تلك الميليشياتُ المنتشرةُ في طول العالم العربي وعرضه، والمشروعَ الذي قام النظام الإيراني بنفخه فيها، وتهيئة ظروفه وهندسة معالمه وبلورة عقيدتيه الدينية والسياسية.
فبعد استيلاء نظام الخميني على السلطة في إيران، قرّرَ النظام المذكور العملَ على إنشاء منظمات شيعية مسلحة يكون ولاؤها ولاءً خالصاً له، ولاء، يحتّم على تلك الميليشيات القيام بوظائف أساسية، منها إشغال أعداء «الثورة الإيرانية» ونظامها عن أي اعتداء قد يطالها، ومنع أي تدّخل قد يحصل في شؤونها، وقد ذهب الخميني، «الولي الفقيه» الأوّل، بحـسـب عارفين، إلى دعم هذه النظرية، وراح يقول بأن للثورة الإيرانية دوراً عالمياً يتمثل بقيادة المستضعفين في الأرض، باعتبارها، بحسبه، النموذج الثوري الإسلامي الوحيد في العالم، مما يجعل تصديرها واجباً دينياً يعكس أهدافـاً سياسية وعسكرية تتلخص في تأسيس حركات إسلامية، وتقديم المساعدات المالية والعسكرية لها، إضافة إلى التدريب العسكري والتلقين العقائدي والثقافي، وعدم الاكتفاء بالدعاية الخارجية للثورة.
والتزاماً بما نظّـر له الخميني وبلاطه، تمكن النظام الإيراني، المسكونُ منذ تأسس بهاجس التوّسع عبرَ عَضَلةٍ شيعيةٍ خمينية، من تأسيـس ميليشيات مسلّحة، كان أولها منظمة «حزب الله»، وتأمين كل مستلزمات العمل الثوري لها، وإحداث اختراقٍ رهيبٍ في مجتمعاتٍ تغيبُ عنها رعاية الـدولّة ومؤسساتها، وحوّل تلك الميليشيات، إلى معمل لتخريج جيوش من رجال الدين الحزبـيين، لغرض نشرهم في المدن والقرى والمدارس، والقيام بدورهم في عملية البناء الثقافي، عبر إنتاج عقلية شيعية لا تتلقى سوى عقائد الاضطهاد ومشاهد المأساة، والتوسّع باتجاه اختراق مجاميع من الشباب العربي وتجنيدهم لصالح ذلك المشروع.
وأضاف: «وعلى هذا، فإن َّالآلية التي اعـتمدهـا نظام الخميني منذ البداية، لم تنحصر في تأديةِ مهامٍ تقليدية، أي في دعم تنظيم موجود وإعماله لمصلحته، أو إنتاجٍ فتوىً لرفدِ حالات حزبية موجودة وقائمة، بل تعدّت ذلـك إلى تأسيسِ ميليشيات مسلحةٍ وربطها في بُنيةٍ أيديولوجية إيرانية محضة، وبناءِ مدرسةٍ ثقافية برافعات دينية، لا تُنتجُ الفتوى بشكلها التقليدي فحسب، بل تقوم بالعمل على ترسيخ فكر اجتماعي وثقافي وسياسي وأمني جديد، وتحويل العمل الحزبي والحركـي في مجتمعاتنا العربية الوطنية، إلى سلطانٍ حِـسي يقومُ مقام الدولةِ ومؤسساتها في كل شيء، في التعليم والفتوى والاقتصادِ والتشريع وتنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها.

معاول هدم
«الصورة قاتمة، وتبدو الأوضاع في العراق أصعب من أن تتمكن الحكومة العراقية من الوفاء بوعد تطبيق سياسة عدم التدخل في شؤون الدول كما تتمنى ويتمنى جوارها لتعزيز السلام في المنطقة، إلا أن الرأي العام في الولايات المتحدة يعتقد بأن تشديد العقوبات على إيران ووكلائها سينهي التغلغل الإيراني»، يقول جيم هانسون رئيس مجموعة الدراسات الأمنية ومقرها واشنطن إن العقوبات الأميركية على إيران، ستؤثر بشكل مباشر في إضعاف دور وكلاء إيران في العراق، كونها تستهدف كيانات الحرس الثوري التي توفر التمويل لهؤلاء. ويرى أن هذا الارتباط مبني على أساس المنفعة المادية وحدها، موضحا بالقول: «تشتري إيران الولاء من وكلائها بدعمهم ماديا وعسكريا وبالمقابل يعمل هؤلاء على تقويض السيادة العراقية»، داعيا الولايات المتحدة إلى تطبيق المزيد من العقوبات على ميليشيات الحرس الثوري والشركات المالية والاستثمارية المرتبطة به في العراق. وقال: يجب أن يكون الهدف النهائي تسريح تلك الميليشيات بشقيها العسكري والسياسي من الحكومة العراقية ووقف تعاونها مع القوات العراقية العسكرية والأمنية بحجة محاربة الإرهاب فيما هي تعمل في الحقيقة على بسط المزيد من النفوذ الإيراني على الأراضي العراقية».

مصير الميليشيات
وفق هذا التوجه ومع استمرار الضغط الأميركي على إيران ووكلائها في المنطقة عموما والعراق خاصة، باتت إيران تستشعر مدى جدية المواجهة مع الولايات المتحدة لنفوذها ومشروعها الأيديولوجي في المنطقة.
وأكد الباحث والمحلل السياسي العراقي في الشؤون الأميركية الإيرانية، أحمد الأبيض، أن الزيارات الإيرانية الأخيرة للعراق جزء من الصراع بين واشنطن وطهران، وهي رسالة إيرانية إلى الولايات المتحدة مفادها أن العلاقات بين إيران والعراق تنتقل من الأسلوب القديم القائم على ارتباط إيران بقيادات ميليشياوية ودينية وأحزاب إلى ارتباط إيران بالدولة العراقية، وأن إيران تمارس نفوذا مطلقا على الدولة وليس مجموعة فصائل مسلحة وأنها لن تتخلى عن هذا النفوذ بسهولة.
إلا أن الأبيض أوضح أن تأثير تلك الزيارات لا يتعدى التعاطي الإعلامي، وأضاف بالقول: «الجو الدولي والإقليمي وتراجع روسيا عن دعم النفوذ الإيراني في سوريا عزز عزلة إيران التي تنتظر تطبيق حزمة جديدة من العقوبات الأميركية، لذلك يرى النظام الإيراني في العراق ورقة نفوذه الإقليمي الأخيرة، ما سيدفعه للزج ببعض الفصائل الموالية له في العراق إلى استخدام الأرض العراقية لتوجيه هجمات عسكرية لأهداف أميركية لجر الولايات المتحدة بالمقابل لمواجهة تلك الميليشيات عسكريا، بهدف القضاء تماما على أي تأثير دولي على العراق قد يضر بالمصالح الإيرانية، إلا أن سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تختلف عن سابقيه من الرؤساء الجمهوريين، فهو يؤمن بالحروب الاقتصادية وبتأثيرها المباشر على الحد من سياسات إيران.
وأكد الأبيض أن الميليشيات الموالية لإيران في العراق أمام خيارين، إما التخلي عن حمل السلاح أو الاستجابة للضغط الإيراني الذي سيرميها في مواجهة خاسرة مع واشنطن وضارة بالعراق، موضحاً، إن المبعوث الأميركي في العراق بريت ماكغورك كان قد أبدى استياء بلاده الشديد من اندفاع الحكومة العراقية نحو تخفيف العقوبات على إيران والتصريح بأن العراق قناة مهمة للالتفاف على العقوبات الأميركية.

الحد من النفوذ
قال المستشار في مركز العراق الجديد للبحوث والدراسات الكاتب الكردي شاهو القرة داغي، حول مدى تأثير إدراج واشنطن بعضا من هذه الميليشيات على قائمة الإرهاب: «هذه العقوبات مهمة ومؤثرة في هذا التوقيت تحديدا، لأنها تسهم في تحجيم قادة الميليشيات من الاضطلاع بدور كبير داخل المؤسسات الحكومية، كما رأينا في تصنيف المدعو أبو مهدي المهندس على قائمة الإرهاب والذي أسهم في تحجيم دوره السياسي ومنعه من الحصول على مناصب في الدولة خوفاً من الملاحقة الدولية على الرغم من حفاظه على دوره في الجانب الأمني والعسكري.
العقوبات الأميركية ستدفع الحكومة العراقية للتعامل بحذر مع هذه الميليشيات وتتجنب التعامل المباشر معهم أو منحهم دوراً بارزاً في الملف الأمني خوفاً من عقوبات تطال الحكومة العراقية التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الإدارة الأميركية، كما إن العقوبات الأميركية جاءت في توقيت تعاني فيه إيران أيضا من المشاكل الاقتصادية وهذا ما أثر على تخفيض دعمها المالي لوكلاءها في المنطقة مثل ميليشيا حزب الله اللبناني، ومن المؤكد سيؤثر هذا التراجع الاقتصادي على الميليشيات الموالية لإيران في العراق، وهذا الأمر قد يدفع الكثير من المقاتلين في صفوف هذه الميليشيات إلى التخلي عن هذه الفصائل خوفاً من ردود الفعل المستقبلية ومحاولة الانضمام لجماعات أكثر قبولاً داخلياً وخارجياً.
وأضاف داغي، إن التأثير الفعلي للعقوبات الأميركية على «عصائب أهل الحق» و«النجباء» وغيرها قد يكون محدوداً في بدايته بسبب اعتماد الميليشيات على مصادر دخل عن طريق السيطرة على حقول النفط، والانخراط في القطاعات التجارية لتمويل نشاطاتها، بالإضافة لتأثير الأذرع الإعلامية والدعوية لهذه الميليشيات ولكن مع مرور الوقت ستحجم العقوبات نشاطات الميليشيات، مشددا على أن التأثير الإيجابي الملموس لهذه العقوبات يعتمد على مدى التجاوب الرسمي للحكومة العراقية واستعدادها لمحاربة هذا التغلغل. مضيفا: «من الممكن أن يؤدي فرض العقوبات على بعض الميليشيات في دفع ميليشيات أخرى للاعتدال والتخلي عن مشروع ولاية الفقيه الإيراني أو محاولة خوض الحروب خارج حدود العراق، ومن الواضح أن الإدارة الأميركية قد تعاقب جهات أخرى من هذه الميليشيات ولكنها أرادت توجيه رسالة للأطراف الأخرى بضرورة التخلي عن المشاريع التي تؤدي لفرض عقوبات أميركية والعمل داخل النطاق العراقي فقط وتحت سقف المنظومة الأمنية الرسمية للدولة العراقية.

انتشار المكاتب الاستخباراتية
مرت محاولة هيمنة الميليشيات المدعومة من إيران على القرار السيادي الخارجي للعراق بما يصب في مصلحة إيران، بمراحل عدة منذ عام 2003 حتى اليوم. وتعتمد بمجملها على إثارة النعرات الطائفية والعقائدية وغرس الطائفة كهوية وانتماء في المجتمع العراقي بديلا عن الانتماء للوطن.
ضاربة بذلك القيم الوطنية التي تتعارض مع الانتماءات الخارجية. وتؤكد بربارا أ. ليف زميلة «روزنبالت»، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى إن تناول علاقة الميليشيات الموالية لإيران في العراق من منظور عقائدي مسلح فحسب قديم جدا، هناك تقارير سابقة رصدت انتشار المكاتب الاستخباراتية الإيرانية في العراق بشكل علني أو تحت غطاء دعوي أو خيري، تخضع لميليشيا قوة القدس ومسؤولة عن التسليح والتدريب.
كما تشمل أيضا مؤسسات إيرانية مسؤولة عن تجنيد الشباب في صفوف الميليشيات عبر ما يعرف بمكاتب مساعدة الفقراء، ويتم تجنيد المراهقين والشباب في سن الـ14 مقابل مساعدات مالية وعينية لعوائلهم بإشراف مباشر من قاسم سليماني وكذلك المؤسسات الإيرانية ذات الواجهة الثقافية والدينية والإنسانية ومؤسسات إغاثة الأيتام وشركات الهندسة والاستثمار ومحال صرافة وبنوك إقراض ومؤسسات إعلامية تلفزيونية وإذاعية وطباعة ونشر، يتجاوز عددها المئات في مختلف المحافظات العراقية وهي قاعدة جبل الجليد للتغلغل الإيراني في العراق مستغلا التقارب الجغرافي وعامل اللغة والدين والنسيج الاجتماعي وعوامل أخرى عدة.
وتشكل الميليشيات الموالية لإيران بشقيها العسكري والسياسي رأسه فقط وهي في الحقيقة الجهة الأضعف في هذا الهرم، وتستبدل إيران من حين لآخر الوجوه التي تمثلها إلا أنها لا تتخلى أبدا عن القاعدة التي تمدها بالدعم البشري والتأييد الكافيين لاستمرار النفوذ الإيراني في العراق وديمومته.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©