تعاقبت على منطقتنا منذ بزوغ فجر التاريخ، ثقافات وديانات وحضارات مختلفة، عاشت جميعها في كنف التسامح والتعايش والحوار، وتشهد جبالنا وسهولنا ومدننا على الكثير من المعالم التاريخية التي تحكي عظمة هذا الإرث الحضاري الضارب في عمق التاريخ، النابض بقيم المحبة والتآخي والسلام.
تشكل مدينة الموصل العراقية أحد أعظم الأمثلة على التواصل الحضاري والثقافي والديني، إذ تعد مجمعاً للأديان السماوية، فالكنائس المسيحية تجاور الجوامع الإسلامية بكل حب واحترام، ولم تشهد طوال تاريخها صراعاً فكرياً أو دينياً، حتى جاءت عصابات «داعش» الإرهابية ودمرت 80% من آثار الموصل في المدينة القديمة، وارتكبت مجازر ثقافية بحق عشرات الصروح التاريخية، وحولت معالمها إلى كومة ركام.
وقفت دولة الإمارات عند مسؤولياتها الأخلاقية بالمحافظة على الموروث الحضاري والكنوز الأثرية باعتبارها إرثاً مستمداً من الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وهنا جاءت مبادرة الإمارات بالإعلان عن أكبر مشروع من نوعه في المنطقة المتمثل في إعادة إعمار الجامع النوري، ومشروع ترميم وبناء كنيستي الطاهرة والساعة، لتصبح الإمارات أول دولة في العالم تعيد إعمار كنائس العراق.
تعد حرية ممارسة الشعائر الدينية، وبناء دور عبادة لأشقائنا المسيحيين، أبسط الحقوق التي يجب أن تتوافر حتى يتواصل الإنسان روحياً مع خالقه، وهي قيمة متجذرة في تكوين الشخصية الإماراتية منذ القدم، وأشير هنا إلى قرار الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، منح قطعة أرض على كورنيش أبوظبي لبناء كنيسة سانت جوزيف عام 1962 لتأمين دار عبادة للمسيحيين المقيمين في أبوظبي.
يعيد بناء كنيستي الساعة والطاهرة اللتين يزيد عمرهما على مئات السنين، الوجه الحضاري المشرق لمدينة الموصل، ويسهم في بناء النسيج المجتمعي، وعودة النازحين إلى ديارهم، من خلال ترميم المعالم التاريخية ودور العبادة التي تمنح المجتمع الموصلي هويته وروحه.
استطاعت دولة الإمارات صياغة شراكة استراتيجية مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونيسكو» لإعادة إعمار التراث الثقافي الذي دمره الإرهاب في الموصل، حتى تستعيد الساعة حياتها، وتعود للدوران بعد أن حاول الإرهابيون إيقافها، ومحو الهوية الثقافية لمدينة الموصل. لقد كانت هذه الكنائس منارات ثقافية، وملتقيات إبداعية، فعلى سبيل المثال، أسهمت كنيسة الساعة في نشر الوعي الثقافي في الموصل منذ تأسيسها عام 1866، وانطلقت منها أولى خطوات المسرح العراقي، وساهم رجال الدين في تعزيز حركة الترجمة والتأليف للارتقاء بحركة المعرفة والفكر في المجتمع الموصلي.
أمامنا مهمة إنسانية جماعية، لنعيد للموصل روحها وهويتها الأصيلة، وتعلو في سماء المدينة مئذنة النوري، وتحتضن منارة الطاهرة والساعة.