يُضيّع بعضهم وقتاً وجهداً كبيرين في جرك لمواقف أنت وقضيتك في غنى عنها، فيما الحقيقة أنهم حولوا انشغالهم بك وبما تقوله إلى قضية تفوقت على اهتمامهم بقضيتهم لدرجة تصل فيها إلى الشك في صدق إيمانهم بقضيتهم! عندما يكون الكلام واضح السلبية وخارج الإنسانية وبعيداً عن الحقيقة ومدعاة للغط والتحزب، يصبح الصمت واجباً تستدعيه الحكمة. ففي أحيان كثيرة.. وكثيرة جداً، ورغم كل ما هو حولنا من صخب وفوضى وتشنجات، يبدو الصمت منعشاً باعثاً للتألق، فهو يحولك إلى ملك متوج في مملكة الحقيقة المنشودة، وإلى سيد على أشخاص تنافسوا في تكبيل أطرافهم بسلاسل الكلام والجمل والنفاق وثرثرة الأسر الأبدية. في الصمت عبقرية لا يدركها العامة والعاديون، وإن حاولوا قراءتها استعصت على فهمهم فيتخبطون في تفسيرها لدرجة قد تتحول خلال محاولتهم تلك إلى تهمة.
وتتجلى عبقرية الصمت كونه أكثر بلاغة وتأثيراً من خطب البعض وشعارات البعض الآخر ومن كل فوضاهم الجارحة. في الصمت عبقرية تشل من هو أمامك ليحتار في شأنك في وقت هو أشد حاجة لكلام منك.أي كلام، لكي يبث سمومه خارج روحه بعد أن امتلأ بها؛ فيما يكون صمتك فرصة لكي تعمل حواسك وتنطق بلغتها الحقيقية، لغة تفرض الاحترام أمام ثرثرتهم التي تولد التنافر والحقد، لغة تجردهم من قدرتهم الوهمية وتدمر أسلحتهم المفتعلة. فلنصمت.. لنقرأ أنفسنا ونسمح بمساحة براحة حقيقية نعيد فيها ترميم الكثير من الشروخ التي حدثت في غفلة منا بيننا وبين الآخرين على الضفة الأخرى.
فلتصمت.. لعلنا بالصمت نسمح للآخرين بأن يسمعوا أنفسهم لعلهم يدركون القدر المهول من الضجيج الذي يصنعونه بأنفسهم وبالكون من حولهم؛ فلنصمت.. لأن في الصمت قوة لا يدركها من عطلوا حواسهم وانشغلوا بلغة بدائية لا عقل فيها. فلنصمت لأن هناك أصواتاً في الحياة تستحق أن تُسمع، أصواتاً لا علاقة لها بالكلمات التي تخرج من أفواه البشر، فلنصمت لأن للصمت لغة لها حروف تعيد ترتيب الكون وتسد كل فراغات القلق والخوف والفتن؛ لغة تُطهر القبح وتلون الكون بألوان السكينة. عندما ننشغل بالكلام واللغو تطلق طاقتنا هدرا أدراج الرياح، فيم ينشغل الصامت بعمله لينجز واقعاً حقيقياً لا تهزمه الرياح.