الغيمة عباءة عملاقة تلف الوجود، والبحيرة الغافية على خاصرة لوزان، أنثى تفيض بالشوق والتوق، والأشجار الطافية على جبين البلد الرومانسي تحرس أشواق العشاق، وتمارس رياضة الرفرفة بين الحين والآخر، والطير غارق في المبنى إلى فضاءات ما برحت تتخلى عن سهد الأمطار المشاغبة.
كل شيء هنا في لوزان، يطارد غزلان الأفكار، ويطوق الوجدان بأهداب الرقة المتنامية في ثنايا المكان، وكأنك تجوب في دائرة محيطها الحرية، ومركزها الحب، هنا في الدائرة المفتوحة على الغيمة، تجد في البرودة دفئاً، وفي الدفء خيالاً لا بتجنب حضورك، حتى وأن كنت في معمعة اللهوجة البشرية، هنا تنتابك حضرة الفكرة، وكأنها حسناء في مخمل الوجل، فتتعجل الولوج في ثقب الحكمة القائلة، «أن تهتم بالشيء تدركه، وأن تدرك الشيء تحبه، وأن تحب الشيء تكون أنت هو، وهو أنت، تكونان في الوجود واحداً»، وهكذا نتحد بالأشياء ونحن نحبها، ونكون في حضرة الحب، كالأنهار التي تصب في بحر واحد.
وهذه الغيمة، تمضي في السر والعلن، تخصب مهج الذين تذيبهم نداوة الماء المقطر من قلب الغيمة، فيبدون عناقيد الليل، تعقد حكاية النهار على مهد الليل، وتمضي في العناق حتى آخر رشفة، وتمضي الرشفات حتى آخر شهقة، وتمضي الشهقات حتى آخر نبضة، وتمضي النبضات حتى آخر ومضة، وتمضي الومضات حتى آخر رجفة، وتمضي الرجفات والبحيرة تطل على العيون من خلال أحداق الموج التأبط سر الخليقة، من بين جوانح العشب وأجنحة الطير.
السماء في لوزان، مثل شرشف تحرر من أجساد الفجيعة، وانبرى يطوي سجله بهدوء وسكينة، بينما توارت النجوم، تخيط قماشة الليل بخفوت، كأنه التلاشي الأخير، ولا يبقى غير الحالمين، وحدهم يرتلون خفقات العزلة، وخلف أستار اللون الرمادي، يبرون أقلام الكلمات التي لم تقل بالأمس، ليفصح اللسان عن خفقة لم تبح عن لواعجها، وتطرف العيون بأخبار لهجت بها الأرواح.
هنا في لوزان، وتحت سقف الغيمة الرمادية، تتسابق الأفكار، مثل حبات المسبحة بين أنامل مرتجفة، يهزها البرد مثلما تفعل الطيور بالأجنحة قبل التحليق.