البياض يتهيأ والحبر في الأقلام، وأنت تقلبين القلم بين يديك وتمسدين البياض.. عرّافة فقدت حدوسها، ترمي بأصدافها فلا تشي ولا تنبئ عن جمرة أو رماد. الكتابة لا تغريك هذا اليوم.. لا تراوغك ولا تستفز خيالك.. شيء معتم لا تعرفينه يجثم على مخيلتك وروحك. شيء ثقيل كزئبق. الأفكار التي تريدين مراودتها كي تسلم ذاتها وتستسلم جاهزة، فالفكرة ككرة من الثلج يلهو بها طفل، يدحرجها فتكبر وتصير أكبر من قامته ومن اللهو. دوماً هناك ما لم يقل بعد. مفصل الوجع ليس هنا، بل في اللهب الذي يدفع بالكلام للتشكل، بالأفكار لتزدهر.. اللهب الذي يهبُّ من الأعماق الخفية ويشعلك، ويشعل ما حولك. كل شيء يصير ممكناً وعذباً وأنت في تألق اللهب تصعدين!
قلتِ إن الكتابة محور الحقيقة والتحقق. قلت إنها هي اللهب السريّ الذي يشبُّ ويأخذكِ إليه.. كل شيء يبدأ من الكتابة ويعود إليها.. المسرات الصغيرة لا تنبعث إلا بعد الكتابة.. اللعب أيضاً، العلاقات لا تباح إلا بعدها. الكتابة هاجس يشد أسرهُ حولك. وأنت مطفأة الروح تبحثين عن لهب تسلل منك في غمرة التفاصيل. ها أنت تنهضين، تتجهين إلى الحديقة، تتأملين اخضرار الغصون العطشى للمطر الغزير الذي يصل السماء بالأرض كأن لا فاصل بينهما ولا فضاء. تلمسين برفق تويجات القرنفل. تداعبين جدائل السرخس فلا مطر يرويها، ولا مطر يبللك ويروي ظمأك.
ها أنت تعودين إلى طاولتك، تحدقين في الورق، تدوِّرين القلم بين أصابعك مرة أخرى وتنهضين. المطر لا ينهمر، وأنت بلا لهب ولا رغبات تشبُّ داخل الروح. الشاي لا طعم له.. حتى الشاي! تضعين سن القلم على الورق كأنك تودين أن تطعنيه. لكن القلم لا يطعن الورق ولا يسيل الحبر بالكتابة. تنهضين للمرة العاشرة. تتجهين إلى غرفة الأولاد. تتذكرين صبيتك الجميلة التي تشع باللهب. تحدقين فيها تشدينها إلى صدرك كما لو أنك تريدين أن تستعيري من نارها لهباً صغيراً يشعل الكتابة. تحدقُ فيك وتعرف.. تقبلك بحنوها الرهيف. لا شيء الآن يشعل لهب الكتابة. لماذا؟ كيف؟ لمن؟ أنت الآن لا تعرفين أي جواب..انهضي إذن إلى الحديقة، إلى الأخضر منتشياً بالضباب الكثيف، الضباب الذي يغلف المدينة كلها.. الطرقات الترابية وشوارع الأسفلت. البنايات والأشجار. قمم المآذن غارقة في اللامرئي. الضباب الذي يصل السماء بالأرض كأن لا فاصل بينهما ولا فضاء. الضباب الذي يلفُّ الأجساد والوقائع والسياسات! الضباب الذي.. وأنت بلا لهب تدوّرين الأقلام وتمسدين بتلات الياسمين. اطعني الورق برمح القلم.. لكن الورق لا تطرزه الكتابة، والحبر صامت لا يسيل، والروح تهمس: من يجيء أين اللهب؟!