البط غاف على دفء الماء، والوسمي يشدو على بحيرة جنيف، والطير يصفق بخيلاء، الناس في غبطة الغيمة، يرفلون بنعيم الطبيعة الخالدة.
عندما تكون بعيداً عن الإمارات، تبدو الحياة خاوية، مهما امتلأت برخاء العشب القشيب والماء والوجه الحسن. وإذا كنت في هذه الوجاهة العالية وبذخ السماء، وتبعدك المسافة الطويلة عن الإمارات، فإنك تتعزى برخامة الصوت الجبلي، الذي يصدح عبر حنجرة فنان اعتدت تسمعه عندما تكون في حضرة الشجن، فيغدقك بهالة من صور تجتاحك كأنها المطر على بحيرة جنيف، كأنها الحلم وأنت بين غابة الخيال الجم، وكأنها النهر يَصْب بين أضلعك، وأنت تسترخي على أريكة وعيك الناهض من أزمنة عبرت هنا من ثقب القلب، ومرت هنا من حنايا الصدر، وأنت هكذا تستمع دوماً إلى نداء داخلي، يدق أجراس الذاكرة، فتقلب أنت صفحات وصفحات، وتقرأ السطور بتلاوة قديمة قِدم العمر الذي خطا خطواته الأولى على رصيف التوهج، ولم تزل أنت، عندما تقفز بعيداً عن ترابك الذي أحببت، ونحتت أقدامك حروف أصابعها على حبات الرمل، وارتفعت أول نظرة إلى سماء ذلك المكان، لتتقصى عدد النجوم التي تضيء عيون نسائه، وتملأ أخفاق العشاق بوهج الحرقات اللذيذة.
هنا على هذه البحيرة، وهنا ترتفع أغنيات الوسمي برشاقة الحنين، ولباقة السنين التي تتابع خطاها، كأنها وليدة اللحظة، وكأنك في اليوم الأول لولوج العمر مرحلة انفتاح الروح، والجسد على عالم الوعي الشبابي، كأنك ما زلت تعيش أيامك تحت سقف الخيمة، المجللة بعوارض خشب الصنوبر، المسفوفة من سعف النخيل، وأنت هناك في الدفء الشتائي، تحتضنك أغنياتك القديمة، واللحن الأبدي يساورك أينما حللت، حيثما رحلت، لأنك تحت شرشف الأمنيات، ما زلت تخبئ مشاعر لا يشيخ لها جبين ولا تهرم شوائب.
فأنت، أنت في المكان والزمان، إذ تنام عيون الدنيا عن خفقة الجوانح، فلا تنم أنت، ولا تسكن لك جفون، لأن في دورة الزمان يبقى شيء واحد محور الدائرة الوجدانية، ألا وهو ذاك القلب الذي لا يقلب صفحة ولا ينقلب على صحائف.
إنه في الكون وجد ووجود، وحتمية لا تقبل الصدف، إنها نظرتك إلى وطن وأغنية، ما بينهما كلمة جادت بتخليد المعنى، وصياغة المشاعر على نغمة خبيب الركاب، وصولات الجياد، ورحلة المراكب على ظهر الموجة النبيلة.