نحن عندما نحب الأشياء ندركها، ونلمس جمالها، ونعي حقيقتها، ولا وجود لحقيقة في الخارج، ما لم تكن مدركة في الداخل. ولا وجود لحقيقة في الداخل ما لم تكن محبوبة، ومقبولة لدى العقل.
فعندما تحب شيئاً، فإنك سوف تهتم به، وعندما تهتم به، سوف تدركه، وعندما تدركه، فسوف تعرف حقيقته. لم يعرف الإنسان حقيقة القمر المعلق في سقف السماء، لولا أنه أحبه، وكتب فيه الشعر الجزيل، حتى أصبح الجمال يقارن بوجه القمر.
لكن هذه الصورة تغيرت، بفعل تغير المفاهيم، بعد أن اقترب الإنسان من القمر، وأدرك أنه ليس ألا بقعة خرافية من تراب وحجر.
الإنسان تصور أشياء كثيرة على غير حقيقتها، وأحب أشياء وكره أشياء، وخاف من أشياء، لأنها كانت بعيدة عن مدركاته العقلية، ولكنه بحب الاستطلاع، استطاع أن يكتشف حقائق كانت ملهمة، وأحياناً ملغمة، وكانت تشكل بالنسبة له مدار أسئلة واسعة الوشاح، بهامة الفضاء المفتوح.
الإنسان قد يتعلق بإنسان آخر، بباعث خيال، وصور وهمية تأتي إليه عبر موجات وذبذبات داخلية يجهلها، فيحب هذا الآخر، ويستمر في حبه له حتى يقترب منه، ويصبحان في الوجود واحداً، ولكن هذا الواحد قد يتفجر للحظة مباغته، لمجرد اكتشاف الحقيقة، ولمجرد معرفة أن ما جاء على لسان الخيال، ليس إلا صورة معكوسة في ماء العين العاشقة، وأن ما كان يرسله الخيال هو واقع وهم، وليس واقع حال.
نلاحظ هذا التعلق الوهمي لدى الصغار والمراهقين الذين يندفعون تجاه أشخاص، قد يكون هؤلاء رموزاً فنية، أوثقافية، أورياضية، أو في أي مجال من مجالات الحياة، يكون لهم شأن وبريق.
والصدمة تكون مدوية، فيما لو اكتشف المتعلقون الحقيقة المناقضة للأشخاص الذين أحبوهم وتعلقوا بهم، وأصبحوا جزءاً من شخصياتهم، واهتماماتهم، بل وحياتهم، لأنّ المتعلق يصبح متلاشياً في شخصية المتعلق به، وعندما يصيب الأخير مكروه، فإن شخصية المتعلق المذابة بشخصية المتعلق به تصاب بمكروه أشد ضراوة وفتكاً.
الحقيقة تبدو هكذا دامغة، كالوشم على الجسد، تضيء العقل بمصابيح لا تقبل الانطفاء، ولا يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، ألم يقع البشر ضحية خدعة بصرية عندما صدق الناس نظرية بطليموس حول مركزية الأرض، وظلت الخدعة سارية المفعول إلى أن جاء كوبر نيكس ليدحض الخرافة، ويعلن اكتشافه الحقيقة، حقيقة أن الشمس هي مركز، وما الأرض إلا كوكب من كواكب المجموعة الشمسية.
كل ذلك تم بدافع الحب، وشغف الإنسان بكونه الكبير.