عندما تتجلى النفس بالشاعرية، يصفو الشعر، وتبدو الكلمات غزلاناً برية عشبها من طيات الضفائر، وماؤها من عيون التعس الكواعب، وبوحها همس، وغمس، ولمس، أرهف من رفيف الورد على هضاب الخصب، والخضب وحدب الركاب البارعات في نحت الرغاء على أثير الوجود، المؤدلج بنشوة البهاء، وصفاء الغصون اليانعات، اليافعات، الجلجلي.
لو تصور العالم قصيدة لا نعي فيها، ولا نحيب الوجيب المقلقل، ولا سحابات العيون المسغبة، لو تصور العالم قصيدة، لم يلمسها وعي المدركات المضببة، ولم يغشها غبار ولا سعار، لو تصور العالم قصيدة مثل الخرير عند انسكاب العذب من بعد لثم الغيمة لشفاه البرق، وعند بريق النور في خد السماء، ونحرها، وفجرها، وسرها المكنون في ثنايا الغافيات على سهد، وعهد، ووعد، وبعد الأشواق في حنايا التاريخ الأنثوي المجلل بالعفة والعفوية، وغريزة التشوق إلى عناق الأغصان على رؤوس القمم الشم.
عندما تتجلى الروح، تبدو القصيدة مثل رفرفات اليمام الذاهبات بالوجد الطفولي إلى ذروة الأحلام الزاهية، إلى أقصى المعنى، والدلالة في قلب الوردة الشفيفة، في شرايين الأرض التي أنجبت عباقرة القصيدة، ومبدعي البلاغة على صفحات الألم اللذيذ، في جحيم الوعي النبيل، في نعيم النظرة الأولى، وما بعدها من تألق، وما قبلها من تدفق، وما بينهما من تشققات في قماشة الحلم، وبعض نواهي الذات، واعتصام اللسان عن البيان.
عندما يتجلى الكون بومضة في الخفايا والنوايا، ويسهر القمر على التحديق في محيا لم يختزن غير نبرات ما يختبئ تحت شرشف القلب، وينمو الوعي بأهمية أن تكون القصيدة مثل حرير السماء المرقش بوعي النجوم، وما دار في خلد «ألبير كامو» عندما خاط ثوب روايته، صخرة سيزيف، وعندما صرخ أوشو أن الحب هو أن تكون أنت والوجود واحداً.
عندما تتجلى النفس، كل الأشياء تبدو قصيدة عرفانية تنهل من فيض الوجود، ولا يرهقها شبق ولا نزق، بل تكون القصيدة مثل المكان حين لا تخنقه كبوتات، ولا يغتصب فضاءه متزمت، ولا متعنت، القصيدة كالوردة تعطي بلا شروط، ولا نزعة مبثوثة مثل رغوة الصابون.