في رحلتنا تلك التي شارفت عشرة أيام، متنقلين صباحاً، ماكثين ليلاً، نستبشر بصباحات المدن، ونثمل بعطر مساءاتها، بداية الأمر كان المسافرون يتذمرون من ذلك الفتى المهتز المرتج، ومن حركاته التي لا تستطيع أن تقدر أذاها، ولا تتنبأ بردات أفعالها، لكن مع الأيام التي قضيناها معاً متنقلين من عاصمة أوروبية إلى قراها وريفها، أصبحت أفعاله مزحة كل يوم بين المسافرين، وبعيداً عنه، وعن سمع زوجته التي أحياناً نحسبها مثله، وأحياناً نكبر فيها صبرها الذي يفوق صبر الأم على ولدها، نذهب إلى العشاء الجماعي، فيتشكى من كل صحن، ويقلّب الأكل، ويغضب من زوجته، وكأنها هي التي أعدّت الطعام، تظل رجلاه تختضان طوال السهرة، فينقل القلق للمسافرين الذين يجدون الليل متعتهم، وكله لهم، خاصة أولئك الشباب الذين يمكن أن تعد ساعات نومهم بساعات نوم الثعالب، ويزيد هو من توترهم حينما يبكي مثل طفل صغير في حضنها، فتحاول أن تعبث بشعره حتى يفزعها بحركة مفاجئة، وهو ينظر لها بعين غير رضية، حاولت بعض النسوة والعجائز الفضوليات أن يسألن زوجته عن مصيبته، فلم تجب بغير أنه لن يتعرّض بالسوء لأي شخص منهم، فهو مسالم وطيّب، لكنه شخصية مضطربة، وتحاول أن تعالجه بشتى السبل، كان يلتقط لنا الصور، ويطلب من زوجته أن تصوره مع المجموعة في كل مكان نزوره، يتحدث فتقول: إنه يمسك بطرف الفلسفة والحكمة معاً، وحين تنصت لحديثه باهتمام، لأنه بليغ، ويشعر هو بذلك، يقلب الأمر فجأة، ويتشتت الموضوع، وتضيع السالفة، كان يدخن بشراهة، يضحك للنكتة، لكنه ضحك يطول حتى تفسد على المتحدث الآخر حديثه، ونكتته، كان كثير الانفعال والتوتر، ومرات نخشى على صديقته أو زوجته منه، لم نعرف جميعاً سر تلك الأصابع الأنثوية التي تهدّيه بسرعة، وأحياناً تنوّمه كرضيع في قماطه.
طوال الرحلة كان طيّباً مع كل الناس، خاصة العجائز المتذمرات، كان يعرف كيف يرضيهن في ساعات الصبح الباكر، وينتزع منهن الضحكات التي ترج تركيبة أسنانهن الاصطناعية، ما عدا واحد من أولئك الشباب الذين نومهم مثل الثعالب، قدر أن يقرأ وسامته، ونصبها الماكر بعمق، ونفذ إلى دواخله المظلمة، ولم تخدعه تلك اللحية التي تضفي عليه وسامة محببة للنساء القرويات، ولا تلك الظرافة التي يبدو أنه تدرب عليها كثيراً في حيّهم الذي يبعد كثيراً عن العاصمة، ولا أحد يعرف عنوانه، كان ذاك المخاتل ينظر إلى زوجة ذاك الفتى، فاكهة الرحلة، وعمادها بعيني ضبع غادر، واستطاع هو أن يلمح منهما تلك النظرة الفاسدة، والبريق الزلالي الكاذب، كان معه فقط يتصرف كرجل عاقل، وند غير مجنون أو جاهل أو معتوه، ربما كان يعود لطبيعته البشرية الأولى قبل أن يصطدم ربما بشيء هشّم قفصه الصدري، شيء مثل احتراق البلاستيك اسمه الخيانة!