الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سينما نهاية العالم

سينما نهاية العالم
2 ابريل 2020 00:09

حول نهاية العالم، يتخاصم الكاهن مع العالم، ومهندسو الحروب مع الحقوقيين، والفلاسفة مع السياسيين وأصحاب المال والمتحكّمين بخرائط العالم وجغرافيا المستقبل، هؤلاء جميعاً يشتغلون على نهاية العالم، كل على طريقته: بعضهم يرى فيها خلاصاً ممّا يحدث، وآخرون ينضّدون لأشكال مختلفة من الحروب نووية أو غذائية أو فيروسية أو إعلامية، من أجل نموّ رأس المال وإدارة شؤون حضارة السلع.. ولكن للسينما حكاية أكثر إغراء مع نهاية العالم. إنّ السينما تجسّد رأساً مشاهد نهاية العالم، وتبسطها أمام أعيننا في أشكال فنّية وتكنولوجيّة مذهلة، تجعل الناس يستغنون عن كل السرديات التقليدية، التي لم تعد تشبع فضول الإنسان المعاصر ومخاوفه إزاء ما سيحدث له في المستقبل، وأيّ شكل من المستقبل لعالم قد لا يبقى منه سوى الفيروسات والفراغ؟ وماذا لو أنّ فيروساً لا مرئيّاً تماماً بوسعه أن يوقّع نهاية عالم أنجزته عقول وآلات بشرية عملاقة؟ هذه بعض أسئلة تسكننا جميعاً هذه الأيام تحت وقع تهديد فيروس الكورونا، الذي يهدّد هو الآخر باقتحام أجسادنا وحتى بتوقيع نهاية حياتنا.

السينما في زمن الكورونا، كما الحبّ في زمن الكوليرا، عنوان قد يمنحنا فسحة من الأمل، يكون فيها البشر قادرين عبر الحبّ على استعادة قدرتهم على الفرح، فرح أن يكون ثمّة دوماً ما يُرى، أي عالم يحتضنا ونأوي إليه بوصفه نمط وجودنا نفسه، السينما هي العالم حينما يفقد العالم توازنه ويصاب بالهشاشة، ذاك هو الحبّ الذي تمنحه لنا السينما حينما تصبح أنيسنا الوحيد في عالم موحش، فرح وحبّ وشوق إلى لقاء شخوص من البشر وسماع أصوات للغات تخاطبنا، وأفق انتظار تؤثثه مشاعر غامضة ومتناقضة فيها الهلع من الفيروس القاتل، وفيها وعود العلماء باللقاح، وفيها أيضاً الأغنيات التي لا تزال الحناجر تصدح بها مقاومة لشبح الموت في كل مكان، إنّ مشهد بعض الإيطاليين منذ أيّام وهم ينشدون معاً من شرفات شققهم لهو مشهد مذهل على نحو عميق: إنّهم بذلك يقولون لكلّ العالم إنّهم ما زالوا قادرين على محبّة الحياة، وإنّنا في مدننا التي تسقط هذه الأيام في مشهد جنائزي معمّم، إنّما «لا تزال لدينا دوماً أغنيات جديدة سنغنّيها فيما أبعد من البشر» (على حدّ عبارة للشاعر بول سيلان)، لكنّ الوباء هذه المرة لم يقتصر على بلاد بعينها، بل هو وباء عالمي يقطف الأرواح حيثما اتفق هنا وهناك ساخراً من أذكى العقول وأقوى البلدان تقدماً وعتاداً وأموالاً، هل ينتصر الفيروس على ذكاء الإنسان وخياله الخلاّق معاً؟

الحياة بلا موسيقى
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: «إنّ الحياة بلا موسيقى خطأ فادح»، لكن بوسعنا نحن اليوم أن نقول إنّ الموت أيضاً يحتاج إلى الموسيقى، فهو موت بلا طقوس دفن ولا مودّعين ولا صكوك غفران، إنّ الكورونا لم تترك أحداً لم تعلن عليه الحرب: حتى المعابد والمساجد وكلّ المقدّسات قد عطّلت أعمالها إلى حين يجد العلماء لقاحاً ينقذ الجميع، لقد كتب الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز: إنّنا «نكتب من أجل كل العجول المذبوحة»، والمقصود هنا كلّ الضحايا الذين يموتون في الحروب، لكنّنا اليوم نعيش على وقع حرب من نوع مغاير: حرب الفيروسات ضدّ البشر، وهي حرب بكتيرية أدخلت العالم في وضعية سريالية أشبه بالخيال، لقد افتكّ الفيروس كلّ الأمكنة الجماعية، ومنع على الجميع الفضاءات العمومية، وفجأة تعطّلت كلّ الهويات الجماعوية وكل الممارسات المشتركة، إنّها وضعية وبائية خيالية أقحمت الجميع في زمنية وجودية مغايرة، هي زمنية العبث أو الاستثناء أو العدمية السالبة، أو هي زمنية التوحّد بامتياز، وهي لعمري كلّها أنماط من الأزمنة التي تصلح للسرد والتخييل على أنحاء شتى، ولقد تنبّأت بهذه الوضعية الوبائية سينما نهاية العالم وما بعد نهاية العالم، كجنس فنّي تستثمر فيه سينما هوليود الأميركية منذ تسعينات القرن الماضي، ولقد صار هذا الجنس الفني هذه الأيّام أكثر أنواع السينما رواجاً في سياق العزل والحجر الصحّي، الذي يحتاج فيه الأفراد إلى مقاومة كارثة وباء الكورونا العالمي، عبر نمط من «تدبير المتوحّد».
لكنّ الفنّ ما فتئ يقنعنا بأنّ الكارثة التي تحلّ بالواقع غير قادرة على أن تهزم القدرة على الخيال، ولقد قال بورخس: «إنّ أعظم ما يمتلكه الإنسان هو الخيال»، فالخيال هو ما يجعل الواقع نفسه يتحوّل إلى قصّة كفيلة بالانتصار بالحبّ، أي بالسرد والخيال على كلّ الكوارث والأوبئة.. وربّما يكون الفنّ بما هو إنتاج رمزي خيالي للحياة، هو الشكل النموذجي للتعبير عن الحبّ: حبّ هدفه أن يكون ثمّة دوماً عالم يحمينا، حتى ولو كان عالم الخيال، وقد كتب بودلير عن المخيّلة ما يلي: «ما دامت المخيّلة قد خلقت العالم فإنّها تحكمه»، ويكتب غابريال غارسيا ماركيز في هذا السياق ما يلي: «إنّ الواقع سيثبت إن آجلاً أو عاجلاً أنّ المخيّلة على حقّ».
وفعلاً، هذا ما تظهره بعض الأفلام التي أنجزها مبدعون في سياق سينما نهاية العالم، ومن بين هذه الأفلام التي أصبحت هذه الأيام الأكثر مشاهدة من طرف سكان المدن التي تعيش في الحجر الصحّي فيلم «العدوى» بتاريخ 2011، وقد توقّع هذا الفيلم بكلّ ما وقع للعالم هذه الأيّام من تفشّي لفيروس قاتل، يفتك بحياة كلّ الناس ويجعل كل العالم في هلع عالمي مرعب، وهذا الفيلم الذي أنجزه ستيفن سودربرغ، هو عبارة عن تخييل ديستوبي حول فيروس قاتل يتفشى بسرعة رهيبة بين الناس، ويقتل الأشخاص المصابين به في أيّام قليلة. وفي هذا الفيلم الذي يشبه ما يحدث في العالم اليوم في سياق كارثة وبائية عالمية، يأتي الفيروس القاتل من الصين أيضاً ومن هونغ كونغ تحديداً، والطريف هو الطريقة الرائعة التي يلتقط بها هذا الفيلم كل ما يحدث في زمن الأوبئة العالمية: منذ حياة الأشخاص إلى قرارات المنظمات العالمية وإجراءات الدول، بما في ذلك قرارات العزل والحجر والحظر وفوبيا الهلع العالمي، وهشاشة الأفراد الممنوعين من حياتهم العمومية ومن حريات التنقل والتواصل والتجمّع والترفيه والسفر، أمّا الفيلم الثاني الذي صار أيضاً وسيلة شفاء من فوبيا الفيروس فهو فيلم «إنذار» (Alerte) بتاريخ 1995، وهو فيلم يسرد أيضاً مشاهد يعيشها سكّان مدينة صغيرة في كاليفورنيا، يواجهون فيروساً قاتلاً اسمه «موتابا»، ممّا دفع السلطات إلى فرض الحجر على المدينة، ويأتي في نفس هذا السياق فيلم ثالث هو فيلم كوميدي فرنسي عنوانه «مشاكل» (Problemos) بتاريخ 2017، حيث تظهر نهاية العالم بسبب وباء عالمي.

الشفاء الرمزي
تنتمي هذه الأفلام وغيرها كثير، إذن، إلى سينما نهاية العالم، التي تصوّر لنا العالم بصدد كارثة نووية أو طبيعية أو بكتيرية، وهي سينما قد مكّنت من ظهور جنس فنّي مماثل يستأنفها على نحو مغاير هو سينما ما بعد نهاية العالم، وهو النوع من الأفلام الذي يجسّد تخييلاً لوضعية البشر الناجين من الموت بعد نهاية العالم، والفرق حينئذ بين فيلم نهاية العالم وفيلم ما بعد نهاية العالم، هو فرق في زمنية التخييل ومكانه: حيث ينهار في النوع الثاني من السينما، الزمان والمكان اللذان اعتدنا عليهما، ولن يبقى حينئذ غير زمنية الهاوية أو السقوط في ضرب من التيه والضياع المرعب واللامكان الموحش، غير أنّ هذا النوع من الأفلام إنّما يترك دوماً للبشر القدرة على المقاومة من أجل البقاء على قيد الحياة، حيثما لا يتبقى غير مجرّد الحياة، وفي هذا المعنى تظلّ السينما على حدّ عبارة للفيلسوف الفرنسي جون لوك نانسي «هي الحياة»، وربّما «لا يكون الواقع غير ضرب من السينما»، وفي ظلّ تعطيل الواقع بسب وباء الكورونا، سيواصل الناس الحياة عبر مشاهدة الأفلام وألعاب الفيديو وقراءة الروايات والإنصات إلى الأغنيات..
تلك هي الحاجة إلى الفنّ في زمن الكورونا: بوسع فنّ السينما أن يمنح الأفراد في وضعية العزل التي هم فيها إمكانية التحرّر من مخاوفهم، إنّ للفنّ وظيفة تطهيرية فهو يساعدنا على التخفيف من حدّة قساوة ما يحدث، ذلك أنّه حيثما ينهزم الواقع وينهار سقف المعنى ضمنه، ويدفع بالعالم في فوضى الرعب، تتسلم المخيّلة زمام الحكم: إنّها تواصل الحفاظ على الأمن الرمزي والنفسي للبشر حتى في أحلك لحظاتهم وأكثرها هشاشة، إنّ الفنّ يحمينا من السقوط في الفراغ، ويشير علينا حتى في أكثر الأعمال الفنية إثارة للرعب، بأنّ الحياة لا تزال ممكنة، وبأنّ ما حدث لا يعدو أن يكون مشهداً سيحفظه التاريخ، لكنّ المستقبل يجهّز لنا قصصاً مغايرة.
إنّ سينما نهاية العالم إنّما تمثّل في هذا السياق الدلالي الواسع ضرباً من العيادة الطبيعية التي تمنح الأفراد في سياق هذا العزل العالمي الإجباري ضرباً من الشفاء الرمزي من مشاعر الهلع، وتخفّف عنهم وطأة الواقع، بتحويل هذا الواقع رمزياً إلى مجرّد مشاهد خيالية، وهذا هو معنى انتصار الفنّ على فوبيا الوباء القاتل، وتنتمي هذه السينما إلى ما نسميه بفنّ المريع أو فنّ الرعب، بحيث يهدف هذا النوع من الفنّ إلى إثارة الشعور بالرعب وبالروع في القلوب، وهو إنّما ينجز شكلاً من التنضيد الفنّي للمساحة التي تجمع بين واقعة مرعبة وشعور بالرعب، وهو بذلك ينطلق من وضعية سردية استثنائية: هو فنّ يلقي بالمشاهد في زمان الرعب والضياع والدمار.. من أجل أن ينبّهه إلى هول ما قد يحدث، حينما يتعلق الأمر بفيلم استباقي، أو إلى قساوة ما يحدث فعلاً، إنّ هذا النوع من الفنّ يخفّف من حدّة الواقع ويحوّله إلى مادّة تخييلية أو مجرّد مشهد قابل لأن يتحوّل إلى قصّة، إنّه شكل من انتصار الخيال على الواقع، في هذا المعنى يكتب غابريال غارسيا ماركيز ما يلي: «لا يبقى من الواقع إلاّ القصّة».

الحارس النموذجي
أفلام الرعب التي تناسب هذا الوضع الوبائي العالمي اليوم، تنتمي في الحقيقة إلى ما يسمى بجماليات المريع، التي وقّعها في الفلسفة المعاصرة جون فرانسوا ليوتار، الذي يعتبر أنّ ما تبقى هو «الشهادة على ما يحدث»، غير أنّ ما يحدث هو لا إنساني على نحو مفزع. والسؤال الكبير سيكون حينئذ: ماذا يمكن للسينما أن تخبرنا عن خوفنا؟ وهذا هو السياق الجمالي العام الذي تشتغل في أفقه سينما نهاية العالم: أي سياق قلق الإنسانية الحالية إزاء المستقبل الذي صار موضوع ريبة من طرف الجميع، لكنّ الإنسانية الحالية تعرف جيّداً أيّ الأضرار سبّبتها حضارة التكنولوجيا الحديثة للطبيعة نفسها، إلى حدّ صار فيه الحديث عن الاحتباس الحراري موضوعاً عالمياً مقلقاً للجميع، هل تكون الطبيعة بصدد الثأر من البشر عن طريق فيروس الكورونا، الذي يقال اليوم إنّه قد نجح في التخفيف من التلوّث في العالم؟ لكن بأيّ ثمن؟
ما دام الفنّ هو الحارس النموذجي للحياة الرمزية للبشر، لن تكون نهاية العالم غير استعارة أدبية، تحثّ الناس على الحفاظ على الحياة كأقدس مهمّة لهم على وجه الأرض، لكن الفنّ لا يحرس الوضعية الرمزية للبشر فقط، بل هو يبدعها ويجدّدها على الدوام، وهو ما يتجلى ضمن أفلام سينما ما بعد نهاية العالم، بحيث يقع الاشتغال على بعض البشر الناجين بعد نهاية العالم، ويقع على نحو مذهل منح هؤلاء إمكانية استئناف الحياة، وربّما إعادة إنقاذ العالم أو اختراعه على نحو مغاير، إنّ ما يثير الدهشة في هذا النوع من السينما هو قدرة الفنّ على تخطّي حدود العالم، واستئناف عمل التخييل والإبداع فيما أبعد من المخيّلة نفسها.
إذا كان وباء كورونا العالمي قد أرغم الجميع على العزل والحجر وحظر الجولان، وافتكّ منّا مساحات الحياة الرمزيّة، وسلبنا حرية التنقل والسفر والترفيه والنشاطات الفنية الجماعية، فإنّ مواصلة الحياة في هذا العزل المعمّم غير ممكنة إلاّ بالفنّ، وهو ما كتبه الفيلسوف الفرنسي المعاصر رونيه جيرار عن الأدب: «أنّه يصاحبنا في جحيم الحياة الحديثة... ذلك أنّ الجحيم الحقيقي هو أن يظن المرء نفسه وحيداً في الجحيم»، وربّما يكون الفنّ هو الوجه المشرق من الكارثة، وأنّه وحده «مقدّس من نمط جمالي سيخرجنا من طوارئ التاريخ وأهواله»، وفي انتظار استعادة العالم لعافيته تبقى الفنون فسحة، يمكنها أن تفكّ عزلتنا، وأن تصاحبنا في هذا العبور نحو ضفّة أخرى، وأن تكسر جدران الحصار التي يفرضها شبح الوباء علينا، فلنحافظ على محبّتنا للحياة، عبر مواصلة الحياة الروحية والرمزية التي تمنحنها لنا الفنون بأنواعها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©