غطى الضباب الكثيف كل أوروبا، فتوقفت فجأة الحياة، وأصبح الناس في فوضى عارمة، وعلق المسافرون في صالات المطارات، وباتوا ليلتها تحت سقف واحد مجبورين، في البداية كثرت الاحتجاجات والاعتراضات، لكن سرعان ما تلاشت مع تصلب موظفي خطوط الطيران المرتبكين، وهروبهم من أمام وجه المسافرين العالقين، وشروع مرافق المطار في إغلاق خدماتها، كشأن أي مطار أوروبي خالٍ من الرفاهية! توسد الناس مخدة الانتظار، وقابل الشباب النضر شاشات حواسيبهم، واشتغلت المهاتفات المجانية، وتهادنت العائلات في نوم متقلب، وبعيد عن أي دفء أسري، وحدهم الأطفال الرضع كانوا يوقظون المسافرين العالقين بين لحظة وأخرى. لا ندري كيف مر ذلك الليل، ففي مثل تلك الأجواء لن ينتظر الناس منبهاً، ولا صياح ديك الفجر، فهم بين يقظة التعب، ونوم الراحة، نهضوا كل يصلي لربه، من أخرج صنماً صغيراً من حقيبته، من قابل جداراً، وظل يوميء برأسه، وجذع رقبته، ومنهم من فرش سجادته، وآخرون بقوا ينتظرون شمس أوروبا التي تظهر خجلى في شتاءاتها القاسية، كي يتلوا صلواتهم، التعب وقلة النوم يلقيان بظلالهما على الإنسان، ويجعلانه متوحشاً، وقابلاً للاستثارة.
في مثل هذه الظروف لا أعتمد إلا على ما في الجيب، ولا أحب المجادلة مع موظفي الطيران، وتبريراتهم الساذجة، فضلت أن أكون من طيور الليل، وعدت أدراجي إلى المدينة بلا تذكرة، ولا حقيبة سفر، نمت ليلتها من الإرهاق وملل الانتظار، بعدها بقيت بذلك «الجينز» ثلاثة أيام مدة الحجر الضبابي، مثل أي طالب في ثانوية إنجليزية متعثر النجاح، فقط أغير فانيلات «تي شيرت» والتي تباع الثلاث بسعر واحدة في محلات الـ«سوفنير»، وقبلها اشتريت «شارجر» لهاتفي، وتدركون أهمية «الشارجر» للمواطن، فالمواطن بلا «شارجر»، مواطن غير متوازن، ونحن لسنا مثل الأوروبيين، تجدنا نضع كل أشيائنا الضرورية في حقائب السفر، لا نحب أن نحمل شيئاً في أيدينا، أدركت ذلك حين تعطل الحاسوب، لأن «الشارجر» أيضاً في الحقائب.
وصلت باريس وكنت أعتقد أن حقائبي سبقتني لمدينتي، لكن تفاجأت بأن وجهتها كانت «جلاسكو»، رغم أن «جلاسكو» هي خارج حساباتي، وخارج ما كتب على بطاقة الحقائب، ثم أخبروني بسلامة وصولها، ولكم أن تتخيلوا كم تكون فرحة الواحد منا حينما يسمع أن حقائبه رجعت من «جلاسكو»، بقيت أنتظر بذاك «الجينز» الأملح نهاراً على أمل أن توصلني الحقائب، ثم اتصلوا ثانية، وقالوا لي أن حقائبي ستصل على عنواني في أبوظبي، فرضيت من الغنيمة بالإياب، الغريب حين وصلت مطار «شارل دوغول» الباريسي، خاوي الوفاض، بلا حقائب، ورآني سواقو الأجرة غير المرخصين، والذين يتلقطون رزقهم على غرباء المدينة والمسافرين كثيري التلفت والتصدد، عرض عليّ أحدهم أن يوصلني إلى الفندق بدراجة نارية، فضحكت على الخدمة الجديدة، وقلت في خاطري، هذا الذي يأتي بلا حقائب، عليه أن يتحمل المصائب!