كم صعب على بعض الأماكن أن تقفر وتصفر فجأة، وهي التي اعتادت على الضجيج، ومرور أعداد وحشود من البشر يتغيرون ويتبدلون كل ساعة، وجهاتهم زوايا العالم المختلفة، كم هو قاس أن ترى مطاراً مهجوراً، والصمت فيه كما مستشفى مخصص للعجائز والمسنين أو ميناء كل السفن فيه مربوطة راقدة، هذا هو حال كل مطارات وموانئ العالم اليوم، لا مواعيد، ولا ساعات منضبطة بالثانية، ولا ناس مهرولون، ولا حقائب تسحب على أرضيات لامعة، المطارات تكره التعطيل، وتكره التأجيل، والعبث بعقارب الوقت، وقد جربتهما خلال سفرات عديدة.
تكون قد عزمت على السفر المنظم، وذهبت بصلابة الموظف الملتزم، سعياً وراء الوقت المحدد، والزمن المتتابع، وهو أمر يتطلبه السفر الحديث، فتفاجأ بأن كل شيء اختلط، وارتبكت المخططات، وجاء وقت الارتجال الجميل، هذا ما تعرضت له مرة خلال سفري إلى دول جنوب شرق آسيا، حيث علقت في مطار «كوالالمبور» حينما غطت السحابة الرمادية أجواء السفر، ورهنت المسافرين وفق ما تشتهي حركتها وانقشاعها، فلبثنا في ذلك المطار الذي ضاق يومها بالناس العالقين، حيناً من الوقت، حتى أيقنا أن لا فائدة ترتجى من الانتظار، وكنت مع الناجين الذين آثروا السلامة والمكوث في فنادق المدينة حتى تظهر شمس ماليزيا علينا، طاردة تلك السحابة الرمادية التي تشبه الحزن في أوله.
ومرة حدثت لي في مطار أمستردام «شيخبول» حيث باغتتنا كتلة ضبابية باتساع سماء المدينة، وبكثافة الملل، بعد المغيب، فأعلنت الطوارئ في ذلك المطار الكبير، وألغيت الرحلات، بعدما أعلنوا عن التأخير من ساعة لساعة، ولكن وحينما غطى الضباب الكثيف كل أوروبا صاح المنادي أن لا سفر حتى صباح الغد أو بعده، فانقلبت حال الناس، والكل يصيح: العمل، المصالح، الأضرار، الخسائر، المواعيد، الظروف المختلفة، وصعوبة التأخير، خاصة بعدما كنّا في قاعات الانتظار أو على كراسي بوابات المغادرة، وبعد أن استودعنا كل أماناتنا في حقائبنا التي عادة ما تسبقنا بخطوات، فجأة تحول المطار إلى منطقة صناعية، وإذا بالترتيب وخطوات المضيفات المحسوبة على رخام أرضية المطار تتحول لخطى متعثرة، مرتبكة، وكثرة الاعتذارات التي لا تفيد أحداً. لقد ضاقت الفنادق التي حول المطار، والتي لا يسكنها عادة إلا المضطرون والمغادرون على عجل، وأنا أمقتها كثيراً لأنها أشبه بالأمكنة الطارئة، وتظل خدماتها تقل، ونجومها تأفل دون أن يحس بها أحد، وفي تلك الليلة كانت مطلب كل واحد من العالقين، لكنها صعبت على الكثيرين، فلم تجد سلطات المطار إلا أن تفتح قاعاتها العليا لتكون سريراً واحداً وكبيراً لبشر من جهات العالم الأربع، وفي مثل حالات النفير تكثر فوضى الإنسان، ويتحول لأنانيته المتوحشة، ويكون أقرب لحال الغاب حيث عاش الجد الأول، تتنازعه الشرور، وحب التملك، والفردانية المزعجة، ويغيب الجمع والجماعة ومعنى روح الجميع، في تلك القاعات الكبيرة.. ليلتها هجع العالم تحت سقف واحد، لكن بالتأكيد كانت أحلامهم مختلفة.. وغداً نكمل.