هذه الآلات الجميلة الصادحة ساعة فجر أو سحر، لا تعرف أين يكمن سرها، هل هي في أصابع البشر، أم تلك الروح الخفية التي تسيّر «ميكانيزم» الأصوات والنغمات السحرية التي تبثها في فرحها وترحها؟ لا يمكن أن ترى «الكمان»، ولا تشعر ببكاء أرملة صغيرة يهزّها حزنها الحقيقي، فلا تعرف، أتبكي الغائب أم تبكي نفسها؟ ما أجمله حين يعانق رقبة أنثى، متهدهداً على ذراعها اللامع حتى يكاد أن ينام من شدة الوجد، أما العود، فلا يوحي إلا بهمهمات شيخ صوفي، كثيراً ما يجلب الفجر معه، ودعوات الأمل الرطبة، يسافر مع ظله البارد نحو قطب بعيد أو يهرول مستدعياً مريداً من مكان قصيّ، كان غارقاً في سبحانيته، «التشيللو» آه.. كم يحزنني هذا الشيخ الهرم بالعافية، يتراءى لي أحياناً مثل جثة صديق عزيز، يسحبه عازفه على صدره، خشية لحظة الفراق السرمدي، يظل ينتحب مفرغاً ما في جوفه من وجع، كم تتحمل كبده من آهات وزفرات، «التشيللو» يا حزن الرجال حين يهزمون ويهرمون بعشقهم الذي لا ينتهي.
حقيقة هذا «البيانو»، وحقيقة هي دروبه ومسالكه يبدو لي مثل سفينة غارقة وحدها في بحر يزاغي أمواجه، لا تريد أن تنتشلها لكيلا يضيع ذلك النغم بين فرحة الماء، وحزن اليابسة، بين التجانس والتناغم حين يحضر الأبيض من سرمد ليل مدلهم، أما الناي فهو كل شجن النفس البشرية قبل أن تغادر الغاب، وحده من يطلق للمراعي مداها، وتلك الحقول الغارقة في زي ألوانها، وسماء فضائها، وحده من يمكنه أن يقول لكائنات البراري تعالي، ولا تبالي، فلا الذئب ولا للراعي ولا الغنم يمكن أن يعيدوا حكايتهم القديمة في حضرة مزماره الذي تنفخ فيه الأنس والجن.
«الغيتار» هو بهجة الغجر في ترحال صبحهم المبكر أو في ليلهم حين تتعب خيولهم، وتبدأ أغانيهم، ساردين حكايات الليالي وأطراف المدن وآهات العشق وخنجر الخيانة، جاعلين «أزميرلادا» أيقونة ركضهم الأبدي، لا ترجعهم ولا توقفهم إلا الطبول، حين تقرع أو حين تعيد توازن الجسد أو حين تشعل في الناس متعة الحرب، هي ركضات براري أفريقيا، وتلك الطقوس الوسطية بين الطوطم، وبين رعود وبروق ومطر، والخوف الخارج من النفس حين تستوحش غابها، الطبول منذورة أن تكون بشارة أو هي شؤم النذير العريان.
بقي صديق جميل أحبه لأنه يذكرني بربيع أوروبا وأزهار عبّاد الشمس، وتلك الأنثى الرعوية، «الفلوت» هذا الذي مثل فراشة ملونة هاربة من الندى إلى الندى، ووهج هباء الضوء المنثور، وبقي «الأكورديون» الذي يشبه راقصة بدينة لها فرحتها وخفتها التي تحسد عليها، ولا تبالي إلا بنفسها، صديق للعجائز في مدن فرنسا منذ زمان بعيد، يا آه كم في صدره من أسرار صغيرة، لا يضاهيه إلا «بان فلوت القصب»، القادم من جبال الأنديز، وأمريكا اللاتينية الخلّابة، هو مثل ساحرة هاربة من الدغل، لأنها سرقت من الماء باقي خريره، ومن الريح شغبها، ودنت من الشقشقة التي تحدثها أوراق الخريف حين تستقبل مطراً في حينه!