هذا الكورونا.. «لا خلّى فيها تذكرة، ولا حقيبة سفر، ولا حامض حلو، ولا شربت»، والسفر على المواطنين ممنوع حتى إشعار آخر، لذا ليس لنا إلا ثنايا الذاكرة، وجر ربابة السنوات الماضية حين كنا نسرح ونمرح، مُشرّقين مُغرّبين، الآن لزمنا البيوت، نقلب «البوم» صور الرحلات، وسيل الذكريات التي استودعناها الأماكن والطرقات والمقاهي، قد نتذكر إفطاراً شهياً على شرفات جنيف، عشاء فاخراً بصحبة جميلة في مطعم «البيت الأبيض» الباريسي، حتى وجبة الرز البرياني التي كنا نتختل، ونحن ذاهبين نذرع الطرق الضيقة لذلك المطعم الباكستاني في لندن، أصبحنا اليوم نتشهى الأشياء والأمكنة، نعيد تأملنا في الوجوه على أرصفة الطرقات، وما مر علينا في ذاك التجوال في مدن الله الكثيرة، ومن بين تلك الأمور التي طالما أجبرتني على التوقف أمامها، ولا تدعني أمر، منظر الموسيقي الذي يعزف على آلته المحببة في المدن وشوارعها ومحطات قطاراتها وأنفاقها، تحت جسورها، على أرصفة المقاهي، وحتى في نواديها الراقية، لا يمكنني أن أغادر دون أن أضع في قبعته أو محفظة آلته الجلدية شيئاً من النقود الورقية، فأنا لا أطيق العملة المعدنية، وأشعر بثقل إن كانت في جيبي، ويلازمني الضيق منها، لا أدري لماذا؟ غير النقود لابد من كلمة شكر، ولو بالعين أو رفع قبعة أو ابتسامة رضا تفرحه، أنا صديق موسيقيي الشوارع والأرصفة، وأحمل لهم شيئاً من العطف، وكثيراً من الاحترام، وأحرص، إن كان يبيع أسطوانة أو شريطاً أو قرصاً لبعض معزوفاته، على أن أقتنيها منه، حتى أصبحت لدي مكتبة صغيرة لفناني الشوارع من مختلف المدن، وإن كان هؤلاء الفنانون هم مدعاة إعجاب، فآلاتهم الموسيقية جديرة بالمحادثة والمحاورة، خاصة العزيزة على القلب، والقريبة من الروح، فلطالما وددت لو تحدثت على انفراد مع بعض الآلات الموسيقية، ثمة حوار بعضه طويل، وبعضه جميل، وبعضه الآخر سابح في عمق أشياء الحياة، لا يمكن أن أرى آلة موسيقية في الشارع تناديني، ولا أتوقف، محباً لا مجبراً، لا يمكنني إلا أن أتعاطف مع أولئك العازفين البائسين، منهم بنصف موهبة، لكن الفقر يدقّ عظمه، بعضهم ضائع مع موهبته الجميلة بين الحياة والحظ الذي قد يتأخر طويلاً، وقد لا يأتي، وبعضهم الآخر، يمارس الأسفار في المدن متأبطاً موسيقاه التي تعينه على الحياة، وعدم السقوط جوعاً على الأرصفة الكثيرة، هناك بعض الآلات التي أحب صوتها، وأراها بصورة مختلفة ككائنات صوتية في الحياة لا تؤذي أحداً، كثيراً ما تستدعي دمعاً هارباً، وكثيراً ما ترقّص القلب بين الضلوع، وكثيراً ما يأتي نغمها محملاً بصور جميلة مسافرة في الرأس، وكثيراً جداً ما تجعل النفس تهدأ من ضجيجها، وشرورها، ناشدة الحب الذي فيها، كذلك السكسفون: آلهة الليل حين تنزل من عليائها الجبلي، تضمد بصوتها المسكون المتعبين من وحشة الزرقة، وتهدهد ما هو جميل في غياب الشمس، مثل مطر باغت الطرقات مثلاً أو عاشق يبحث عن وجه فلت منه في الزحام أو قلوب متصدعة بلوعة الفراق أو هناك سفر قد يحطم شيئاً غير الزجاج.. وغداً نكمل