هنا نعود إلى فيلسوفنا البنيوي الشهير ليفي شتراوس، والذي قال: «إن الإنسان مجموعة ثقافات، جاءت من أقاصي التاريخ، لتحضر في الزمن الراهن»، وكذلك أبدى فرويد نفس الفكرة، في قوله: «إن الإنسان المتحضر، يحمل في داخله نفاية زمن الغاب».
وأنت عندما تتحدث إلى شخص ما، تلاحظ مثل هذه الانثيالات تنهال فجأة، وبشكل غامض، وسريالي، لا يستطيع الفرد أن يغادرها لأنها أصبحت تمثل واقع حال بالنسبة له، ولا يمكن لنا أن نفرز تلك التشابكات، والتقاطعات عن بعضها، لأنه في نهاية المطاف ليس الإنسان إلا ذاكرة، وما الإنسان إلا شجرة أغصانها تعضد بعضها بعضاً، يميل غصن فلا بد وأن يتكئ على غصن آخر، وهكذا الإنسان، عندما تعترضه معضلة فإنه يطلب حق اللجوء إلى الذاكرة، والذاكرة هي التي تعينه على التواصل مع العالم، وقد يكون
التواصل سلباً، أم إيجاباً، المهم في الأمر أن الإنسان ليس أكثر من تراكم أفكار، استقرت في قاع الفنجان، وبقيت هناك، وكلما رفعت الفنجان، تحركت الدوائر الصغيرة الراسخة في القاع.
فلو تصورنا إنساناً بلا ذاكرة، ماذا سيحدث في الواقع؟ المصابون بالزهايمر هم الذين يعرفون مدى قيمة الذاكرة.
نحن ندين الذاكرة في كثير من المواقف، كونها تضم بقايا ونفايات تاريخية، ولكن هذه الذاكرة نفسها، هي التي تحفظ ودنا مع الزمن.
الزمن ذاكرة فسيولوجية، والتاريخ اختراع بشري للحفاظ على الزمن. ما بين الزمن والتاريخ علاقة ليس بين ندين، بل هي علاقة استكمال للرحلة الطويلة التي يقطعها الفرد منذ ميلاده وحتى رحيله عن الدنيا، وكذلك بالنسبة للمجتمعات، إنها تستكمل دورتها في النمو والارتقاء عن طريق الذاكرة الجمعية التي تضع للزمن تاريخاً، كما تضع للشخصية بناء وهيكلاً يبدو في بعض الأحيان مبهماً، ولكنه في الحقيقة يعبر عن جوهر الوجود الإنساني، والذي من دونه لا تكتمل الشخصية، بل إنها لو تخلصت من الازدواجية لأصبح الإنسان والحيوان في منطقة عقلية واحدة.
الإنسان مزدوج لأنه يفكر، والحيوان غير ذلك، لأنه يعمل بالطريقة الآلية، الموحاة إليه من الخارج. الإنسان كائن مفكر، والتفكير هو الذي يجلب للذاكرة حزمة الصور، والمشاهد والأحداث كل هذه تتراكم في مخزن الذاكرة، وتشكل شخصية الإنسان.
التفكير مثل الموجة، الموجة تجلب إلى الشاطئ بياضها، كما تجلب النفايات. من هذا المزيج تتكون الذاكرة، ومنها تتشكل الشخصية، ومن خلال هذه الشخصية المزدوجة، يبرز الإنسان المتدحرج على سفح التغيرات اليومية.