في الأسفار الكثيرة كنت أحب أن أزور تلك المدن والقرى التي ولد فيها كبار المشاهير والعظماء من كتّاب وفنانين وسياسيين ومبدعين في المعارف الإنسانية، وإن كان هناك قبور لهم في مساقط رؤوسهم، وهذا ما يحدث نادراً، لأن معظم هؤلاء المبدعين مغبونون بمدنهم في حياتهم، محتفى بهم بعد وفاتهم، فإن صادفت قبر واحد منهم أو منزله الأول، فإنني أتوجه إليه، وألقي عليه تحية صادقة إن كان قد ترك أثراً من المشاغبة في رأسي ومعرفتي أو ترك أثراً خلدته به البشرية، في الدول الأوروبية لن تجد معضلة في ضياع وتشتت إرث مبدعيها، فلكل شيء منهم قيمة، ويحظى بتقدير، وغالباً ما تكون مساقط رؤوسهم أماكن سياحية، ومتاحف خاصة، فمدينة صغيرة مثل «ستراتفورد» شهرتها لأن شكسبير منها، وتفاصيلها في كتاباته، يقصدها اليوم السياح من كل العالم، حيث يزيدون على خمسة ملايين سائح كل عام.. تذهب إلى مدينة «سالزبورغ» في فيينا فتجد منزل الموسيقار «موزارت».. تكون في «فرانكفورت» فتلقى كل ما يخص شاعر الألمانية الكبير «غوته» في مسقط رأسه، لكن حين تعرج إلى طنجة العالية، فبالكاد يوصلك زقاق المدينة القديمة إلى قبر ابنها الرّحالة «ابن بطوطة»، وحاله مزرٍ، ولا تصل إليه إلا بالصدفة أو بشق الأنفس، في حين في طنجة ثمة قبور لمبدعين مغاربة وأوروبيين مثل قبر «محمد شكري» وقبر «جان جينيه» في مدينة العرائش التي تبعد ثمانين كيلومتراً عن طنجة، هكذا يعيش الكثير من العلماء والعباقرة والمبدعون من شعراء وفنانين ورسامين وموسيقيين حياة الضنك في الدنيا، ويفرّون من مدينة إلى أخرى طلباً للسكينة، وتبليغ علمهم أو طلباً للحرية ومساحة للإبداع، وإعداد تلاميذ ومريدين من بعدهم، لأنه غالباً ما تتنكر لهم بلدانهم، ومساقط رؤوسهم في الدنيا، حيث لا كرامة لنبي في قومه، وبين ظهرانيهم، فلا يجد إلا الغُلب والغبن في الحياة، أما حين الممات فتتهافت الأمم عليه وعلى إرثه العلمي ومنجزه الأدبي والفني، وتتنازع المدن لاحتضان وفاته ورفاته، وإقامة الهياكل والنصب والتماثيل له، وكل يدّعي وصلاً بليلى، ولكم تحزنني قصة ذلك الرسام الذي يذرع شوارع مدينته، وحين يحلّ المساء الحزين، يتوسد قاعدة تمثاله لينام متعباً من جحود المدينة لجثته، بينما هي تحتفي بكل تلك الأحجار الرخامية التي كانت من الممكن أن تصنع له بها حديقة كبيرة، وبيتا صغيرا، ليشعر مرة بمعنى أن يكون لغرفة نومه سقف مضيء، ويفتح عينيه على الأخضر في الحياة.. وغداً نكمل