أواه، لقد اصفرّ الورق وأوشك أن يتطاير كالرذاذ في مهب رياح الزمن وخطى الأيام في تعاقبها خفية. نعم اصفرّ الورق، لكن نقشي على صفحاته ما زال يشع متألقاً بنبض الشاعرية في قصائدي التي دونتها على الورق قبل قيد الكتابة بحروف الكمبيوتر على شاشته. الحروف التي لا يتبدل شكلها ولا نقشها بين كاتب وآخر. ولا نستدل بها على شخصية الإنسان الذي دونها، إذا لم يكتب اسمه في نهاية المقال أو القصيدة، أو الرسالة التي يبعثها إلى صديق أو قريب. في درج مكتبي الكثير من الرسائل التي بعثها إليَّ الأصدقاء والأبناء والأقرباء، بخط أيديهم على الورق، منذ أزمنة مضت. وحين أفتح ملف الرسائل وأقرؤها لإيقاظ ذاكرتي وأشواقي إليهم، أعرف كل واحد منهم من نوع خطه وأسلوبه قبل أن أقرأ توقيع اسمه في الرسالة.
أما في هذا الزمن الذي سيطرت فيه أجهزة الكمبيوتر والتلفونات المحمولة، فصارت خطوط الرسائل وكل أنواع الإبداع المكتوب على شاشاتها متشابهة، كأنها الأخبار على صفحات الصحف. وأسوأ ما تضمره هذه الأجهزة أن الكتابة على شاشتها قابلة للمحو لخطأ في الجهاز ذاته، أو في وسائله العديدة. أما الورق، يا لمجد الورق الذي نقشت عليه قصائدي وذكرياتي وتأملاتي، والذي رغم اصفراره في سطوة الزمن ظل محتفظاً بنقوشي على صفحاته، وبشكل خطي الذي حين أعود إلى قراءتها، يدهشني شكل خطي الواضح الأنيق الذي كنت أكتب به قبل اقتنائي أجهزة الحداثة التي قننت كتابتنا بحروف أبجديتها الثابتة. وما يدهشني ويحزنني أنني لم أعد أُحسن الكتابة على الورق. ورغم الدفاتر والأوراق الكثيرة في مكتبتي لم أعد أكتب إلا على شاشة الكمبيوتر أو شاشة التلفونات النقالة التي أصبحت تحيطنا كعقد في الرقاب. وتتنقل معنا حيثما نكون.
أيتها الأوراق التي كتبت على صفحاتك منذ يقظة الشاعرية في روحي في سنين الصبا. سأحتفظ بك رغم اصفرارك في صندوق ثمين، تماماً كما يحتفظ الإنسان بمجوهراته في صناديق ذات أقفال سرية حرصاً عليها، وتقديراً لقيمتها وخشية من فقدها. ستظلين أيتها الأوراق الصفراء شاهداً على مسيرة إبداعي وأيامي. إن أكثر دواويني التي طبعت لي، إنما كانت نقوشاً في أرحامك، نسختها من صفحاتك التي اصفرّت لتنقش بآلات المطابع مرة أخرى على صفحات أوراق الكتاب. وها هي القصائد التي نقشتها على صفحاتك أصبح الكثير منها سلعاً في هيئة كتاب يُباع ويُشترى.
وتبقين أنت وحدك الحضن الأول لكل ما طبع لي على ورق الكتاب.