تفرض علينا السرعة المفرطة التي نعيش عصرها، غشاوة لا ندرك تداعياتها الحقيقية على منظومة تطورنا، والحقيقة أننا في مقابل تحقيق الكثير والكثير جداً من الأمور في زمن قياسي، -لم يضاهه في قصره أي زمن عاشه الإنسان من قبل- فإننا نبتر كل شيء ونفصله عن سياقه الذي عليه أن يبقى ضمنه ليكتمل نضجه، ينطبق ذلك على كل شيء، من العمل والقول، بل وحتى الأفكار التي تدور في دواخلنا، ولا نعطيها حقها في الاختبار والتأكد، وهو ما يؤدي بلا أدنى شك إلى ضرر كبير، كون ما يتم التفكير به أو عمله أو قوله هو محض إرهاصات أولية هشَّة لا يُعتمد عليها.

الآن، ونحن نتعامل في أغلب أوقاتنا في بيئات افتراضية سريعة الوصول والانتشار، لا تحتمل سياقات مطولة قابلة للتلاعب والتزييف، تزداد احتمالية سوء الفهم أضعاف أضعاف عما عرفه البشر في معاملاتهم على مر العصور، وبالتالي تزداد حالات رد الفعل الغاضبة السريعة وغير المسؤولة على نفس المنصات، بلا داعٍ حقيقي، فحتى وقت قريب، كان كل شيء كالسياقات المبتورة وعدم اكتمال الصورة وردود الفعل المستهجنة أو حتى المستحسنة، كلها تصب داخل العالم الافتراضي، ولكن الآن أصبح للحالة وضع آخر.

لقد أصبح الاستحسان وكثرة تسجيل نقاط الإعجاب والتعليقات الإيجابية على فعل تم عرضه على منصات التواصل الاجتماعي، قابل للإثابة والتكريم في العالم الواقعي، كذلك تحول الفعل الذي يتم الرد عليه بتعليقات مستهجنة ومستنكرة على منصات التواصل، إلى إمكانية عقاب صاحبه على أرض الواقع، الأمر المثير حقاً، أن كل تلك الأفعال المستحبة أو المستنكرة وكذلك ما شهدته من ردود فعل عليها، أمور في غير محلها، وكلما ازداد عدد المستنكرين - على سبيل المثال- تطوع الباقي للمضي في نفس النهج، وكأن عدم مشاركتهم في ذلك دليل على استحسانهم الفعل!

وبطبيعة الحال، العكس صحيح، فإذا كان فعل محل إعجاب وتقدير من أحد الرموز أو المؤثرين في المجتمع، وجدت الجميع يسير في نفس النهج، ويسلك ذات السلوك أو يزيد عليه من منطلق «ملكي أكثر من الملك»، في حين أن صاحب السلوك ذاته ربما يكون قد قصد أمراً آخر من فعله هذا، وأن سياق فعله لم يكن بالصورة التي تصورناها عنه من الأساس.. بل ربما بالعكس تماماً!