هل تذكرين لماذا زرعت البنفسج والورد والياسمين في أرجاء البيت الذي كان تراباً قاحلاً كالطرقات المنسية في المرقاب، من بذرة القلب وشغف الزراعة، وسقيته بزلال الماء ورعاية المحب، سوف تهدينه لمن؟ الضباب الذي يحضن الفل قبل إشراقة الصباح والذي سوف يتطاير في هبوب الرياح سينثر عطره مبتهجاً لمن؟ المساكين الذين شردتهم الحروب والدمار على قارعة الجوع وطرقات المجهول والمنافي سيرفعون هتاف الاحتجاج.. لمن؟ النساء اللواتي تبعثرن في طرقات الهجرات، واللواتي ستهطل دموعهن كحرقة الجمرات على أطفالهن وستشد خطاهن غربة الطرقات، سينسجن أماني السلام لمن؟
الرجال المدججون بالسيوف والبنادق والقاذفات منذ قديم الزمان، يمتطون صهوات الأوهام ليقطعوا الرقاب ويخضعوا الرؤوس، لماذا، ولصالح من؟ والبشر الذين يجلسون في مكاتبهم، متكئين على مقاعدهم، يختمون الأضابير، بينما إضبارة النفس مغلقة، يأتمرون بماذا، ولمن؟ البيت الذي كان غرفة واحدة وملحقين، ثم أصبح عشر غرف وسبعة ملاحق بعد أن شيدته بفيض إبداعك وفتنة خيالك، سيؤول بعد الغياب لمن؟ آلاف الكتب التي أوغلت في عمق معانيها، والتي تغطي جدران الغرف لمن تحتفظين بها، ولماذا؟ السؤال يجر السؤال كما يسحب الغيم غيماً ليمطر، لكن إذا شح غيم من الماء، سيكون الجواب شحيحاً ليظل السؤال لماذا، ولمن؟
هل ينام البنفسج كما تنام الكائنات وينام الضحى في حضن السحاب وينام لظى الشمس في ثنايا المساء؟ لماذا ولا يقظة الفكر تنهض من عتمة الروح كي تجيب السؤال؟ ولماذا لم يعد الحبر ينساب على الورق من يقظة الخيال بين أصابعي وكفي؟ ولماذا لا رذاذ الضباب يخصب طين أحلامي فينهض في ثناياها وعد الشجر بأثمار الأماني؟ ولماذا تقف الحروف حائرة، ولا يتدفق جميل المعاني بعفوية وتلقائية إذا انشغل الفكر في البحث عن كلمة أو وزن أو بحر أو قافية لقمع التأمل والخيال الطلق في قالب الحرفة والصنعة القصدية؟ هل الشعر إلا تدفق الخيال والشاعرية والمشاعر في لحظة برقها؟ فلماذا تشد خطانا رحى الأمس دوماً ولا ننتبه؟ هل الوقت إلا وقع خطى الزمان الذي يسورنا، أو يسير بنا؟، فلماذا لا يسيل الزمان بنا خفية كما يدفق الماء من نبع خفي إلى وادٍ ونهر ليخصب تربة الأرض ويخصبنا؟ ولكن لماذا الزمان في سيولة أعمارنا يحيلنا إلى قحط في مسيرة العمر، ثم يحيلنا إلى تراب قاحل لا تخصبه الينابيع ولا الأمطار، ولا تُنهِض من قحله زهرة ولا عشباً، فلماذا حين لا ندرك كل هذا، لا ننتبه؟