السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

صوت التاريخ

صوت التاريخ
19 فبراير 2020 00:02

في الثالث من فبراير من عام 1975، وفي مستشفى القوات المسلحة في ضاحية المعادي بالقاهرة فاضت روح أم كلثوم، الفتاة البسيطة التي ولدت في قرية طماي الزهايرة، التابعة لمركز السنبلاوين، محافظة الدقهلية، والتي بلغت لاحقاً مرحلة من العظمة، جعلت منها سيدة العصمة بعد تكريم ملك مصر وقتها فاروق الأول لها، ومنحها نيشان الكمال من الدرجة الثالثة، عطفاً على تكريمها في غالبية الأقطار والأمصار العربية والإفرنجية.
رحلت أم كلثوم، أو «الست»، ولم يملأ أحد فراغها حتى الساعة، رغم كل الوسائل التكنولوجية المتقدمة التي تساعد المغنين والمؤدين على تجويد ألحانهم ونغماتهم، فقد كانت وبحق القيثارة التي تصدح بحنجرة ذهبية، هدية من الخالق.

هل كانت أم كلثوم مغنية اعتيادية عرفها التاريخ المصري والعربي؟
أفضل من تصدى لهذا السؤال الكاتبة الأميركية «فرجينيا دانيلسون»، في كتابها الذي حمل عنوان «صوت مصر»، وفيه ترى أنها قصة مطربة ناجحة في مجتمع يتصف بطبيعته المركبة، ولذا فهي قصة متعددة الأوجه. إنها قصة فتاة ريفية كبرت لتصير رمزاً ثقافياً لأمة كاملة، وهي أيضاً قصة امرأة تؤدي العمل الذي احترفته باقتدار، امرأة اعتمد نجاحها في مجال عملها على بذل جهد مضن كي تشق مساراً لنفسها وسط الأعراف والمؤسسات الموسيقية السائدة في مصر. لقد وجدت أم كلثوم وسائل للتأثير والتحكم في الأعراف والمؤسسات التي كان لها صلة باشتغالها بالغناء، كما أن قصتها قصة تطور مطربة قديرة رائعة كان غناؤها - ولا يزال – ينظر إليه على أنه مثال معاصر جدير بأن يحتذى لفن عربي قديم يحظى باحترام عميق. كانت أم كلثوم بلا شك أوسع المغنين انتشاراً وشهرة في العالم العربي في القرن العشرين، لقد ظلت تغني لما يزيد على خمسين عاماً، من عام 1910 تقريباً منذ أن غنت مع والدها في الأفراح والمناسبات الخاصة بقرى ومدن شرق الدلتا حتى مرضها في عام 1973 قبيل وفاتها.
بلغ عدد الأغنيات التي سجلتها نحو ثلاثمائة، وعلى مدى ما يقرب من أربعين عاماً، كانت الحفلات التي تقدمها في ليلة الخميس الأول من كل شهر تنقل في بث مباشر على موجات الإذاعة المصرية المعروفة بقوتها، ولذلك كانت سفيراً لدى العالم العربي بأكثر من كونها مطربة تصدح بأبلغ الكلمات أو أجمل الألحان.

أبوظبي.. ليلة تاريخية
تكاد جوانب عديدة من الحياة الخاصة لأم كلثوم أن تكون غائبة عن الكثيرين شرقاً وغرباً، لاسيما أنها عاشت للفن وللغير في إنسانية منقطعة النظير، فقد كانت وفية لأهالي قريتها لا سيما من الفقراء، وعلى الرغم من شهرتها وضيق وقتها، إلا أنها كانت دائماً تجد الطريق إلى هناك لتحنو على فقيرهم وضعيفهم، توزع المساعدات المالية، وفي الشتاء الملابس، وفي الأعياد اللحوم، بل إنها قامت بتوزيع أراض على بعض الفلاحين بالقرية في الإصلاح الزراعي، واتفقت مع المهندس عثمان أحمد عثمان صاحب شركة المقاولين العرب على جعل القرية نموذجية، وإعادة بنائها إلا أن هزيمة مصر في عام 1967 غيرت من خريطة عملها.
ضربت أم كلثوم مثالاً رائعاً بالفنان الملتزم بوطنه، في السراء والضراء، إذ كانت في طليعة المصريات اللواتي وقفن وراء مصر وتبرعن بمجوهراتهن لصالح الوطن، وقد أعطت مثالاً رائعاً في انكار الذات، بل إنها جابت أرجاء العالم لجمع المال للمجهود الحربي كما كان يطلق عليه في ذلك الوقت.
ولأم كلثوم قصة مع دولة الإمارات العربية المتحدة خلال التحضير لقيام الاتحاد، فقد أحيت احتفالاً تاريخياً وفنياً بديعاً بمناسبة الذكرى الخامسة لتولي المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» مقاليد الحكم في أبوظبي، الأمر الذي يبين أن أبوظبي كانت وستظل واحة وارفة للثقافة الجادة والفن الرفيع والموسيقى الراقية، وأقامت أم كلثوم حفلها الأول في الدولة في 28 نوفمبر 1971، على مسرح وزارة الدفاع، وكان حفلاً استثنائياً بكل المقاييس بدأته بأغنية «أغداً ألقاك» قصيدة الشاعر السوداني الهادي آدم، وفي 30 نوفمبر استقبل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه» أم كلثوم في ديوانه بقصر المنهل، كما أقامت سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيسة الاتحاد النسائي العام رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة الرئيس الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية «أم الإمارات» مأدبة عشاء كبرى تكريماً لأم كلثوم. وقد أهدى الأب المؤسس قلادة نادرة من اللؤلؤ لأم كلثوم تزينت بها في حفلها الثاني، وهي المعروضة الآن في متحف اللوفر أبوظبي.

سيدة الغناء والقلوب
وعلى مر السنين صارت أم كلثوم ذاتها من نتاج الشهرة التي أحرزتها، كان المستمعون يعمدون إلى تقييم أسلوبها وأساليب غيرها من أهل الطرب وكانوا يتأثرون بالتغييرات التي تجريها هي وغيرها في الأساليب الموسيقية المعروفة، وكانت اختياراتها الموسيقية - ومن ثم مكانتها في المجتمع المصري – تعتمد على طريقة استقبال المجتمع لفنها.
لم تكن أم كلثوم تغني الرباعيات فحسب.. بل إنها كانت تكسبها معنى على حد قول أحد عازفي الكمان في معرض تعليقه على ترجمة لقصيدة عمر الخيام الشهيرة التي شدت بها أم كلثوم، ويضيف قائلاً: يجب أن نفهم الكلمات.. أننا لن نتذوق هذه الموسيقى إذا لم نفهم أبعاد ومعنى ودلالات الكلمات.
لم يكن صوتها السبب الوحيد في نجاحها، فالسبب الحقيقي في نجاحها هو شخصيتها.. المصريون لا يحبون صوتها وحسب، إنهم يحترمونها.. عندما ينظرون إليها يرون خمسين عاماً من تاريخ مصر والعالم العربي، ولهذا فهي بالفعل والحق أكثر من مطربة أو مؤدية، فهي ليست مجرد مطربة.
لا يزال مشهد جنازة أم كلثوم شاهداً على مكانتها في قلوب المصريين والعرب، فقد جاءت في تاريخ جنازات المصريين العظماء، الثانية بعد وداع عبد الناصر المهيب. رحلت الست لكن من النادر أن تخلو ليلة عربية من شدوها بأعذب الألحان... الفنان لا يموت.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©