قبل أكثر من أربعين عاماً، وقف صبي في يوم ممطر بجاكيت أصفر، وغطاء رأس أزرق، وكاميرا ألمانية «أغفا» صغيرة، مبهوراً، وهو يرى لأول مرة في حياته ساعة بذلك الحجم الشيطاني، وكأنها آلهة تحرس المدينة، ظل بصر الطفل متعلقاً بتلك العقارب العملاقة لساعة «بيج بن»، وسمعه بدقاتها المنتظمة، بقي متسمراً بحيث نسي الوقت في حضور سيدة الوقت.
ظل ذلك الحلم يكبر به، وينتقل معه في مدن العالم، وظل كعادة جميلة يحبها، ويحب أن يقف أمام ساعات المدن التي تتسلق الجدران في شيء يشبه الخشوع لربات الوقت، ومع مرور الوقت، ومضي سنواته، وقف يسأل: هل الزمن غير الوقت؟ وهل هو وراؤنا يلاحقنا؟ أم أمامنا يسبقنا؟ هل كان الزمان فراغاً.. وامتلأ بالإنسان؟
من هنا بدأت حكاية ساعات المدن التي أحرص على التوقف عندها في كل مدن العالم، وبعض الساعات هي ما تغريني بزيارة بعض المدن، أدهش وأنا أسمع موسيقاها، أتذكر بحزن تلك الفاردة أجنحتها على الجدار إن مرت عليها حروب أو حرائق أو نهب حينما يتوحش الإنسان، أشعر بوطأة الزمن عليها حين تتكبر عليها المدن، فإما تزال بفعل الهجمة الرأسمالية، ومصالح السوق، فتصبح ذكرى في رؤوس من عاصروها أو سمعوا عنها حكايات من الأولين أو هي تقف خلفهم في ذاكرة صور باهتة تندس في «ألبوم» العائلة أو ببساطة تدهسها عجلة الزمن الجديد، فالوقت ليس وقتها، ولا الزمن زمنها، هكذا غابت ساعة العين ودوار الساعة، وهكذا رحلت في صمت وغفلة ساعة أبوظبي على الكورنيش، وحدها ساعة دبي الباقية بأذرعها الأسطورية.
في كل المدن هناك ساعات لا تتشابه، لكل منها شخصيتها وحضورها، وثمة حكاية وراءها، في قصر الحمراء بغرناطة كانت تلك الأسود تشير للوقت، وتعمل بنظام الساعة المائية المنتظمة، تأتيها المياه من جبال «سير نيفادا» من دون مضخات، وتستمر في انسيابيتها طوال العام بنظام هندسي، وحسابي دقيق، لكن الإسبان بعد استسلام غرناطة وسقوطها، عبثوا بتحريك بعض تلك الأحجار، وديناميكية المياه، فتوقف الزمن، وضاع الوقت، وبقيت الأسود خارج الزمن.
ساعة العاصمة البوليفية، هذه الساعة المقلوبة عقاربها أو الصحيحة في مسيرها، لا ندري لماذا نعد عقارب الساعة الصحيحة تلك التي تحبو من اليمين إلى اليسار، أدهشتني فكرتها، هي مثل من ينظر لنفسه في المرآة أو كمن يسافر ووجهه عكس سير القطار، فالناظر لنفسه في المرآة يعرف نفسه وحده، والمسافر بعكس سير القطار سيصل في الوقت نفسه مع المسافرين.
اشتهرت سويسرا بالصمت، والسرية المالية، والحياة الهادئة، وهنا سر الوقت، وسر ساعاتها التي تسير بانضباط، هنا في سويسرا يضبط العالم وقته على ساعاتها، لكن حتى الساعات المتوقفة تعطيك الوقت صحيحاً مرتين في اليوم.. وغداً نكمل