دائماً ما نسمع عبارة «ما أحلى أيام زمان» ونحن نمضي في الزمان عبر تمنيات وأحلام تزين لنا الماضي، وتغض الطرف عن حاضر نحن الذين نتمسك به، ونتمتع لمعطياته. لماذا أذن هذا الحنين؟ لماذا ذاكرتنا مثل قارب خشبي على الرغم من رسوه على الرمل بعد شطيط وحطيط من الزمن، إلا أنه لم يزل يحتفظ برائحة أسماك نافقة.
في واقع الأمر نحن لا نَحُن إلى الزمن، بقدر ما نحن نستدعي طفولة أفلت، وفحولة تلاشت، وريعان توارى خلف مخلفات أعمارنا. لا يمكن أن يكون زمن الجمع والالتقاء أروع من زمن استطاع في الإنسان تسخير كل موارد الطبيعة لصالحه، واستخدم كل أدواتها لسعادته، وارتاد هذا الإنسان آفاقاً، ومجاهيل، بفضل هذا العقل الذي لا يزال يستدعي الذاكرة، ويجرد حسابات الربح والخسارة.
الإنسان الخائف من زوال العمر المرتجف من وحش الموت، ينحو صوب الماضي، لائذاً بالفكرة باتجاه الحنين واستدعاء الماضي، كملاذ ومرسى على أعقابه تزول بعض الصور المهيبة، وتختفي بصورة آجله لا أكثر.
لا يستطيع الإنسان الظفر بالسعادة الكاملة، وإنما يحاول قطف بعض الثمرات يحاول الخروج من صهد القلق، والوقوف عند مشارف السكينة. تظل صورة الماضي مثل لوحة تشكيلية قديمة، رسوماتها تعبر عن مشاهد عاطفية، مر بها الإنسان، وكانت ذات شأن وفن، ولما يستدعيها الإنسان يشعر وكأنه يعيش لحظات اليفوع، والينوع، يشعر وكأنه في محض الشباب، والشباب مرتبط في الذاكرة، بالقوة، والقوة مضاد الموت.
هكذا يفكر الإنسان، ولو أمعنت النظر في كهل تجاوز الثمانين من العمر، وهو يتأمل وجه امرأة في عمر الورود، سوف تلقط صورة حقيقية للحلم الذي يعيشه الإنسان، أنه يظل متمسكاً بالشباب، حتى وهو في أرذل العمر، لأنه في هذا التشبث يطرد شبح الخوف من الموت، ويكشح عن روحه صدأ الإحساس بالفناء، وإحضار الأبدية كواقع نفسي لا غير.
عندما ينظر الكهل إلى فتاة يافعة، ويتأمل محياها، فإنه في هذه اللحظة، يستدرج عمراً هارباً وزمناً مختفياً خلف هذا العمر، إنها المحاولة والخطأ التي يبذلها الإنسان، لإثبات ما يمكن إثباته إلا بالحلم.
الحلم هو القوة العظمى التي تظل تراوغ شبح الموت، وتزحزحه من مكانه ليبقى في منأى عنه، وليبقى الإنسان في المنطقة الخضراء.
الحلم.. الحرز الذي يمنع مخلب الموت من السطو على العقل، والحلم هو نقطة الالتقاء ما بين الواقع والخيال، وكون الإنسان كائناً خيالياً، فإنه يتخذ من الحلم بيتاً للكينونة، دفاعاً عن الذات، وحفاظاً على التوازن الداخلي.