أنت تريد أن تعود إلى الماضي، ليس لتفرده بالجمال، والجلال، ولا لاستثنائيته في البريق والرحيق. فلكل زمن مفرداته التي يتميز بها على الزمن الآخر.
أنت تريد العودة إلى زمنك، لأن فيه طفولتك، وشغبك، لأن فيه أحلامك العفوية، وأنت اليوم في قلب الانحناء، والانزواء في جادة مليئة بأسباب العجز.
أنت تشعر بأنك لا تستطيع الوصول إلى الشارع إلا بمعية من يعينك على العبور من دون خسائر. لذلك عندما تجد صغارك يتقافزون مثل عصافير يافعة، تشعر بعقدة النقص، التي تريد أن تزيح غبارها عبر إسقاطات، تحيل الأبيض إلى أسود.
أنت تستنكر سلوك الصغار في المأكل، والمشرب والملبس، لأنك ما زلت في ذلك المكان النائي من زمنك المضاء بالفنار، والمؤثث بالحصير والمحاط بالظلام من كل جهاته الأربع. عندما يلتئم جمع الصغار على مائدة الأكلات السريعة، تصاب أنت بالغثيان، وتستنكر هذا السلوك، وتقول عنه إنه زمن الضياع في حلبة أطعمة من صنع الغير.
عندما تلاحظ ابنك يرتدي بنطالاً ضيقاً، وعند الركبة بان العظم وكأنه يرتدي قماشة ممزقة، ينتابك شعور بالأسف، وتهز رأسك، وكأنك تشاهد منكراً أو بدعة لا تغتفر.
عندما تشاهد صغيراً قص نصف شعر رأسه عند الأذنين وأبقى النصف العلوي عند قمة الرأس، حتى بدا مثل الهرم، تستنكر أنت ذلك، وتبحلق عينيك، وكأنك تشاهد فيلماً فانتازياً.
هذه صور الواقع التي تجتاحك بغرور، وتكتسح مشاعرك بقوة القانون الطبيعي، ولكنك لا تذعن لطبيعة الأشياء، ولا تتماثل مع الواقع لأنك منزوع الإرادة، ولأنك ما زلت مثبتاً عند مرحلة ما قبل التغير، فلا تجد غضاضة في أن تنتقد، وتجرح أحياناً، وتوبخ، وتؤنب، لأجل أن تؤدب، ولكنك كمن يسبح ضد التيار، فيغرق، قبل أن يسحب معه من يريد إنقاذه.
أنت لا تقتنع بما يسلكه الصغار، وكذلك هم لن يتورعوا في السخرية من أفكارك، فأنت قديم، وهم الأحدث، أنت في الماضي وهم في الحاضر، وما بين النهرين هناك شعاب، إنْ لم تزل برفق وحنان، فإنها قد تلوث النهر ولن تنقذ مياهه من الضحالة.
عندما نفقد الحنان في تعاطينا مع الواقع، فإننا نصبح مثل الحطابين في الغابة الذين لا يفرقون بين الأعواد الخضراء واليابسة، فيعيثون خراباً بمكونات الطبيعة، وبعد حين تصبح الغابة في خبر كان. إذا وجدت ورماً في الرأس فانتزع الورم، ولا تجز الرأس، ليستعيد المريض عافيته.
عندما يصاب أحد جدران الغرفة بالتشققات، فرمم الغرفة، ولا تهدم البيت. المعضلة التي نواجهها هي تمسكنا بثوابت نظن أنها تأخذنا إلى الحقيقة بينما هي تذهب بالعربة إلى الوادي السحيق.