عندما تسمع عن ابن عاق، ولا يبر والديه، فاتجه إلى التاريخ، وفي التاريخ كتاب لا ينسى، ولا تفلت منه جملة أو كلمة. سيخبرك التاريخ أن هناك ثغرة واسعة برزت في أحشاء القارب، أثناء سفره إلى الحياة، هذه الثغرة هي التي أغرقت هذا الشاب العاق في بحر الظلمات، وهي التي جعلته يسبح ضد تيار الأخلاق، وهي التي أرغمته على الانحراف إلى صخرة ناتئة في عرض البحر، فتحطّمت الكثير من الألواح في قيمه الاجتماعية، مما جعله لا يستطيع السباحة بطريقة سوية، ومن يزرع الخشخاش لا يجني إلا الخراب، وهكذا تستمر دورة الحياة، في بناء جدر متهاوية يسند بعضها بعضاً، ولكن دون جدوى.
فكما تدين تدان، وفي نهاية الأمر، فإن الحصاد المر، لا يجنيه إلا الوطن. فعندما تربي أسرة ما حشد من الكائنات بمخالب حادة، وأنياب تقطع حبال الوصل مع الآخر، فإن النتيجة القصوى في هذا النتاج يكون على حساب وطن، وعلى حساب مقوماته، ومكتسباته، ومنجزاته التي تذهب جفاء مهاماً وضعت من قوانين وضوابط وثوابت، فإنها تصطدم بحبال من الآذان الصماء، لأن هذه الآذان ملئت من قبل بأصوات نشاز، وضجيج لا يسمع بسماع الموسيقى العذبة، ولا ويفتح الطريق لعبرة توقظ العقل، وتصحي المشاعر.
في ساعة الغيبوبة يصبح من غير المجدي أن نصرخ في أذن الميت سريرياً، ومن غير المفيد أن نخض جسده كي يرانا، أنه لا يرى، ولا يسمع سوى تلك البقعة السوداء التي ختمت على قلبه من قبل أب أو أم، ولا يرى سوى ما طبع على الصفحة التي كانت بيضاء، فاسودت بفعل الغبار الصيفي الذي أثاره أحد الوالدين.
نحن دائماً نجري خلف النتائج، ولا نلتفت إلى الأسباب، ما يجعلنا شديدي الإدانة، والتذمر، والقنوط، والامتعاض، وكل هذه الأدخنة التي نثيرها حول النتائج، لا تقدم ولا تؤخر، لأنها مجرد انغماس في اللا معقول، لأنها مجرد انهماك في أسئلة الغوغاء، ولأنها كذلك، فإن الألم الإنساني يكبر، ويتضخم، ويتورم، ويتأزم، وتتثلم زجاجات القلب، ولا من يجبر، ويسبر لماذا؟ «إن القلوب إذا تنافر ودها - مثل الزجاج كسرها لا يجبر».
وعندما تكبر حلقة التنافر، فإن الجرح لا يصيب الأسرة، بل يتجاوز الكسر حدوده، يمضي في حفر آلامه في ضلوع الوطن. ويسيل لعاب المتنمر أسرياً، ليتمدد، ويتمرد، ويتبدد، ويتقدد، ليصبح وباء في الجسد الاجتماعي، وداء علاجه هو الأصعب والأتعب.
فالأسرة بيت الداء، إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت ناء الجسد بأفتك الأمراض، والأعراض الاجتماعية الفتاكة.