نحشر أنفسنا نخسر، وندبر، ونستعر، وتحمر وجناتنا ونفتقر إلى أبسط الأسس الآدمية، عندما نعتنق فكرة أن الطبيعة منزل شر وغضب، يعيشه الإنسان مجبراً، ونأخذ بنظرية فرنسيس بيكون الفيلسوف صاحب النظرية الاستقرائية، ونذهب معه إلى أقصى حالات العدائية ضد طبيعتنا.
عندما تخرج من منزلك، وتشاهد الطير وهو يعانق الشجرة بهدوء وأناة، ومن دون وسائل اصطناعية، نشعر أن هناك خيطاً رفيعاً أرق من هدب العيون يربط بيننا وهذا الكائن الأنيق، نشعر أن ما تسرب إلى مخيلتنا أننا نستطيع أن نرتقي، من دون اعتناق فكرة الحب، بأننا عشنا في خدعة بصرية، أطاحت كل مقوماتنا البشرية، وتحولنا بفعل التراكم التاريخي إلى آلة تحك أضراسها جسد حقيقتنا، وتسحننا إلى أن نصبح مسماراً صدئاً في قلب الآلة الاجتماعية، فنضيع، وتضيع فينا السبل، وننتهي إلى مسخ يجر خلفه أمساخاً، وهكذا دواليك، تتراكم نفاياتنا فينا، ونحن في كومة النفايات الحلقة الضائعة في نظرية التلاشي.
فيا ترى كم من أمثال روبرت اوين الإصلاحي الإنجليزي الذي ظهر في القرن التاسع عشر، والذي نادى بأهمية أن نكون في الوطن الواحد حبات مسبحة، ترص بعضها بعضاً، حلقة التواصل الاجتماعي، وتنمي روح التعاضد، بدلاً من نفرة التضاد.
نحن نشتكي من عقوق الأبناء للآباء، ولا ندري أن العقوق جاء من نهر التلوث الذي شاب العلاقة البدائية في أسرة مزق قميص دفئها شحوب الوجوه، ونضوب الحنان، في صدور من يتمنون الحنان بعد حين من العجز، وتصدع العظام، وتردي الطاقة وانحلال الجسد، ووهن القدرة.
نحن محتاجون إلى أكثر من روبرت اوين، وأكثر من روسو كي يوقظان فينا روح التآزر، والتضافر، من أجل صناعة بيئة أسرية، يحن فيها الكبير على الصغير، لتنمو بذرة الحنان في روح الصغير، ويصبح يافعاً ممتلئاً بالحنان.
يجب ألا نطلب من شاب أن يكون ملطفاً بالهواء النقي، وهو لم يعرفه في الصغر، ففاقد الشيء لا يعطيه.
لقد خسرنا الكثير ونحن نخرج من بيتنا، تاركين الصغار يلهجون بلغة شفها فقدان الحنان، ورضها وخضها، ومضها، سلوك عشوائي في التعاطي مع فلذات ارتموا في أحضان ليست أحضانهم، وتلقنوا ثقافة غير ثقافتهم، ورضعوا حليباً من أَثْداء صناعية، وقلنا لهم هذا يكفي، هذا أكثر دسماً.
نحن نخطئ، ونستمر في الخطأ، ولا نصحو إلا عندما يكون الخطأ بحجم التاريخ الذي نسيناه، وتجاهلنا ثوابته. الوطن لا يزهو وجهه إلا في بيوت أضيئت بمصابيح حنان الأبوين، وسبر أبناء أصحاء نفسياً.