إن أبعاد التاريخ، بمناحيها المختلفة والمتشابهة، تتطلب قياسات الزمان والمكان، وكم يستوقفني المكان لثبات موقعه، حتى عندما يغير الزمان ملامح ذلك الثابت، لتلوح لنا الذاكرة في الأفق، فتعرج على الدروب القديمة والمُحَدَثة.. وكم بيننا من يتفادى معضلة عودة التاريخ لسابق عهده وتكراره لنفسه، قبل ثماني سنوات تحدثت عن ذاكرة المكان، وكيف لفنون المُشافهة، القوة الناعمة، أن تعزز حضارة متنقلة، وترسخ هوية ثابتة، معي أنا بالذات كرر التاريخ نفسه، عندما زرت مجلس الطوية، ووجدت نفسي وقد أحاطني المكان بحضور أهله، فكان مفعماً بالمودة والترحيب.. عادت بي تلك الأجواء والصور والأطياف إلى زمنٍ مألوف، ترك بصمته في نفوس جلساء المجلس الكرام، فجعلت منهم قبساً ينير سمات السمو والمستوى الرفيع من الأخلاق، فجمال ثقافتهم احتوى الضيف والمكان، وهم أصحاب كرم، اختاروا السماء سقفاً لكرمهم فلم ينتهِ.
وعندما دخلت المجلس، شعرت بعمق الموروث ورؤية الشيخ زايد، طيب الله ثراه، والقيادة الرشيدة، حفظهم الله، في إنشاء تلك المجالس التي تشجع الحوار، وتبادل المعرفة، ومناقشة الأمور التي تسهم في ترسيخ الولاء والانتماء واللحمة الاجتماعية، نظرت حولي فوجدت عينة مجتمعية مميزة، فمن بين الحضور نخبة من علية القوم، وجيران المجلس، والمهتمين بالمعرفة، والمناشدين بنبش المزيد من التاريخ والتراث وما بينهما، لقد شُغِفت بهم وهم قدوة نتعلم منهم الأخلاق والفضائل، فقلت في خاطري: ما كانت تردده والدتي، رحمها الله، دائماً من أن الصحراء مدرسة الأخلاق التي يتعلم الناس منها التعاون والتكاتف والتعاضد، ومن أمثلتها المعهودة أن «الشدة هي التي تربي»، ولم تقصد بالشدة القسوة، ولكنها عنَت الالتزام والإصرار والتحدي، وهي عناصر بَنَتْ الرجال والنساء، وأبقت على ثقافة دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجاً للسلم والسعادة والتسامح في العالم.
للعارفين أقول: تُعَدُ ذاكرة المكان العمود الفقري لهويتنا، ومعرفتنا بتفاصيل الزمان والأحداث التي جرت حينها؛ كما تقوم المجالس برسم خريطة طريق، تعزز القيم والأصالة، وتسير في خطٍ متوازٍ مع متطلبات العصر واستراتيجيات الحكومة وأهدافها بأن نحقق الريادة.
كل الشكر والتقدير ومزيد الاحترام لمجلس الطوية الذي احتوى المكان، حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة جيل جديد، سيسهم إيجاباً في صناعة التاريخ.