هل تحتاج الإنسانية إلى كل هذا القلق، وهي تشق عباب الحياة؟ سؤال يتدحرج على سفح عقل لم يزل يفكر بالطبيعة المسالمة؟ لو تفحصنا الأرض والبحر، والسماء التي فوق رؤوسنا، لوجدنا كل ما حولنا يشير إلى أن هناك وحياً يوحي من قبل العقل يقول له الزم مكانك، فالعدو يتربص بك، والطبيعة ما هي إلا مخلب فتاك ينظر إليك بريبة وتوجس.
هكذا يعيش الإنسان على وجه الأرض، ويصحو وينام على أضغاث أحلامه التي تصحيه ليلاً وتقول له احذر من القادم، فهو أخطر. ولكن يا ترى هل هذه هي الحقيقة؟ بالطبع لا، وإن كل ما يراه الحالم ما هو إلا محض هراء وافتراء، جاء من خواء الذاكرة، ومن صناعة بشرية بامتياز. نحن الذين صنعنا خوفنا من الطبيعة، كما نخلق خوفنا من الآخر.
الآخر في بداية الأمر كان نحن، ولكننا عندما فكرنا في بناء السياج كي نمنع الهواء من دخول غرفنا الداخلية، أنشأنا من خلف السياج روحاً ما ورائية، ورسمنا على وجهها ملامح الخوف، لنعزز عزلتنا، وندعم ما بداخلنا من نوازع التقوقع، والاختباء، لنثبت حقيقة ما نتوهمه. لا يوجد خوف غير الخوف الذي نرسمه على سبورة الحياة، ولا يوجد عدو غير الذي يتشكل في داخلنا.
فنحن نخاف لأننا لم نخرج من العتمة، ونحن ترتجف أطرافنا، لأننا لم نزل في العزلة الارتيابية التي فرضناها على أنفسنا. لا شيء أجمل من نكون في الحياة، «نحن» وليس «أنا».
عندما نتخلص من الأنا، نكون قد أكملنا مشروعنا الحضاري، أما ما عدا ذلك، فليس أكثر من لعبة صغيرة نديرها في الواقع كي نهرب من حقيقتنا. على صعيد الاختراع المادي، فالإنسانية حققت ما تعجز عن تحقيقه قريحة أي كائن يدب على الأرض، ولكن هذا لا يكفي. هذا لم يزل مجرد بقعة بيضاء على سطح دائرة معتمة.
نحتاج إلى قدرة إضافية تجعلنا فعلاً متفوقين ليس على الكائنات الأخرى، وإنما على أنفسنا. نحن بحاجة إلى كشح ذلك الغبار الكثيف عن مرآتنا، ونحن نحتاج إلى قدرة نفسية فائقة، تضعنا فوق كل الجبال التاريخية المتراكمة عند نواصينا، حتى نخرج من فكرة الخوف من الآخر.
نحن نحتاج إلى مصابيح كاشفة ترينا مدى الخدعة التي عاشها الإنسان منذ أن نزل عن الشجرة، وراح يحطب في الغابة، ليطهو طعامه، ولما لم يجد الأعواد اليابسة، أحرق أصابعه، ثم قال لقد أحرقتني الشجرة، ولما لم يجد صدى لصرخته، قال لقد أحرقني الآخر.
هذه خدعة، والحقيقة تقول الآخر هو أنا، وعليَّ أن أتناغم، وأندمج، حتى تذهب الأنا إلى غير رجعة، ويصبح العالم بخير، وسلام.
عندما يعم السلام، لن نحتاج إلى كتلة السلاح الضخمة، ولا إلى المال المبذر في هذا الغث.