أكثر ما تتأثر به الثقافة هو التداخل والتكيّف مع الثقافات الأخرى، وبالأخص في البلدان التي تكثر إليها الهجرات، بما يفرز على الدوام قيماً اجتماعية وأنماطاً فكرية جديدة، وفلسفات تحاول أن تقرأ العالم من منظور متعدد. كانت اليونان قبل عصور الفلاسفة محط هجرات كثيرة من آسيا وأوروبا وأفريقيا، هذه الهجرات هي التي مهدت لظهور فلاسفة الطبيعة السبعة الكبار قبل سقراط، حيث تباينت واختلفت نظرتهم إلى الكون والإنسان. هذا يعني أننا بالاختلاف والتعدد، يمكن أن نبدع فلسفة جديدة لواقعنا وتاريخنا ومستقبلنا. وبمعنى آخر، يمكن للثقافة ذات البعد الواحد أن تبقى أسيرة نهجها، وأن يكون التغيير فيها صعباً وطويلاً. على عكس المجتمعات المنفتحة على الثقافات والهجرات، حيث تصبح ديناميكية التغيير فيها دائمة ومستمرة.
تأثرت وتتأثر الثقافة في الإمارات بالهجرات القادمة من كل القارات. كانت حركة التغيير والقبول بالمغاير والمختلف صعبة في البداية، حيث واجهت دعوات الحداثة في الفكر والفنون والآداب رفضاً من كل شرائح المجتمع ومؤسساته، لكن ومع استمرار انفتاح الدولة على العالم، بدأت التغييرات تطال المناشط الثقافية كافة وبوتيرة أسرع كل يوم. كانت معارض الكتب في الشارقة وأبوظبي محلية عربية في الثمانينيات، لكنها تطورت بسرعة لتصبح دولية وتوفر منصات عرض لتيارات الفكر الجديد في العالم كافة. وكانت معارض الفنون تقتصر على اللوحات التقليدية التي تعكس البيئة المحلية، لكنها اليوم تستضيف أحدث التوجهات والفلسفات في بينالي الشارقة، ومعارض الفنون الكبيرة في أبوظبي ودبي. وكانت القصيدة التقليدية العمودية سيدة المنابر والصحف، لكن الغلبة آلت في النهاية لقصيدة النثر والنصوص الحديثة لمعظم جيل الأدباء بعد مراحل الثمانينيات وحتى اليوم.
يمكن قياس هذا الأثر المتغير والسريع على بقية صنوف الثقافة في المسرح والموسيقى والأغنية، بل إن الجديد والمغاير صار شرطاً وغاية. أي أن التغيير أصبح نهجاً تتبناه المؤسسة الثقافية، وتوجهاً يلبي تطلعات الحكومة التي تسعى إلى احتضان مجتمع يتأسس على قيم التعايش والتسامح والقبول بالآخر.
أمام هذه التحولات الكبيرة، أصبحت الثقافة في الإمارات ذات أبعاد كثيرة ومختلفة. هذه المؤتمرات العملاقة في الفكر الجديد والإدارة الحكومية واستراتيجيات المستقبل وقضايا البيئة والمناخ وغيرها، كلها تصب في مجرى التغيير السريع لنمط التعاطي الثقافي مع قضايا الإنسان اليوم. وهي قضايا متشعبة وكثيرة، لكن يبدو أن الحل الدائم لها، يكمن في الثقافة المتحررة من فكرة الثبات، تلك الثقافة التي يكون التغيير والتجدد الدائم، أصلها وفلسفتها.