مطلوب منا أن نكون عقلاء، وأن نتناغم مع الواقع، لتسير المياه في الجدول بأمان.
هذه هي الحقيقة، ولكنّ شيئاً من الجنون يحتاج إليه الإنسان ليرتب قطع الدمية في داخله، وليستطيع أن يمارس اللعبة في الحياة بشكل طبيعي ومن دون محسنات لغوية لا تفي بالغرض، ولا تخدم الجملة الشعرية، والتي يريد من خلالها بناء قصيدته المتفائلة حول الحياة.
الجنون ليس مرضاً عقلياً، وليس هو معارض صحة العقل. العقل في حد ذاته يحتاج إلى الجنون، مثلما تحتاج رشفات القهوة إلى النكهة التي تعيد للذائقة لذتها.
نحتاج إلى الجنون؛ لأنه ما من عاقل تخلى عن جنونه، إلا ودخل غرفة العناية المركزة، وانتهى به الأمر إلى موت سريري، ثم الوداع الأخير.
الجنون في العقل يمنحنا الحركة، والخروج من المياه الراكدة، وكل الذين تقيدوا بسلاسل العقل بلا جنون وصلوا إلى ضفة النهر متأخرين، ولم يجدوا ما يشربونه، بعد أن انفض الجمع، وذهب كل إلى غايته، ما عدا من استأسد عقله، وتكلس، وأفلس من كل يثير فيه حرقة المواكبة مع دورة الحياة، وحركة المراوح التي تدور في الرؤوس.
العقل عندما يقف ضد تيار الجنون، تجنح به التيارات، وتكسره، وتلقي بأغصانه خارج ضفتي النهر، وبعد حين تصبح أفكاره أشبه بالغصون اليابسة، يصبح هو أشبه بالشجرة الجرداء، وتصبح بيئته صحراء قاحله، تؤمها صرخة الطيور المشردة، والغزلان البرية التي لا عشب لها وما ماء.
نحن نحتاج إلى الجنون العاقل، نحتاج للعقل المجنون؛ لأننا لا نستطيع أن نعيش خارج الطبيعة، ولا تحت الأرض، ولا في ثنايا سماء غيمتها قطنة تخلت عن بياضها.
نحن نحتاج إلى الجنون؛ لأنه فن الحياة. نحن نحتاج أن نتمثل فكرة أرسطو عن الفن في أنه «الفن هو فهم الحقيقة، عن طريق صور محسوسة تكون لها فائدتها وقيمتها الجمالية». وكما أكد هيجل «الفن أسمى من الطبيعة».
فنحن في الجنون فنانون نمنح للطبيعة جمالها، بعد أن نعيد صياغتها، وترتيب الخصلات على جبينها.
نحن في الجنون نعيد للعقل مكانته في حيز الوجود، ونذهب بالحياة إلى حيث ينبغي للعقل أن يكون.
كل الفنانين، والمخترعين، والمبدعين، لم يكتشفوا ذواتهم إلا من خلال ومضة الضوء التي أنارت فناء العقل، في لحظة التجلي، هذه هي لحظة الجنون العالم، هذه هي بغية العقل ومنهجه، ومرآته، وحلمه.