تسافر إلى العالم، وتعبر الحدود، ومعك تعبر ذاكرة تختزل الزمن بسنوات ربما تكون قصيرة جداً في عمر الشعوب. عندما تحط قدماك في مكان ما من هذا العالم، وهو خارج تضاريس منطقتنا الشرقية، تشعر بأن كل شيء في حياتك يتغير، تشعر أن في تلك البلاد لا يوجد في قاموسهم عبارة سن اليأس.
الحياة هُناك بالنسبة للأفراد مثل النهر، خالدة، ومستمرة في العطاء، والغيمة تمطر الأرض، والعشب ينمو في الأفئدة وليس بين حبيبات التراب. هناك الحياة شجرة معمرة، ولا موسم لها.
تقف على ضفة نهر، فتجد رجلاً وامرأة تجاوزا الستين من العمر، وعلى وجهيهما نخوة الشباب، وفي عيونهما يشع بريق الأحلام الزاهية، وعلى لسانيهما تلمع ومضة رضاب يشي عن ريعان روحين تناغماً مع رقصة الطير على صفحات الماء، وانسجما مع رفرفة الأوراق على القمم الشم.
تمشي في الشارع، وتصادفك امرأة ترفع رأسها إلى السماء وتنادي السحابة كي تلمس خدها بِنَثة باردة، تحيي في داخلها ذاكرة لم تزل تحفظ الود مع طفولة يانعة.
تدخل في مقهى، وتجد رجلاً قارب السبعين أو أكثر، يحتفي بميلاد بيضة العمر، بابتسامة أنصع من، قطنة طويلة التيلة. كل شيء هناك تجاوز سن اليأس، ودخل مرحلة اليفوع التي لا نهاية لها، كل شيء هناك يرسم صورة الحياة البهية، على سبورة لم تلحقها خربشة الزمن ولا نالته مخالب البؤس. لا أحد هناك يختبئ تحت ملاءة العجز البالية، هناك الحياة تمشي على قدمين لم يمسهما روماتيزم الاكتئاب، هناك الأحلام مثل غزلان برية، تقفز بحرية على عشب الفرح.
هناك الأمنيات تظل واقفة، ولا تكبو، ولا تخبو، ولا ينطفئ لها بصيص، هناك ربما لأنهم لم يتعلقوا كثيراً في الماضي، أصبحوا أخف حركة، وأكثر رشاقة وأنبل رؤية للحياة.
هناك الحياة بالنسبة لهم، ممر يؤدي إلى النهر، وليس إلى النفق، لذلك فهم عند هذا النهر، ينظفون العقل من نفايات التاريخ، ويرتبون أفكارهم، ويضعونها في مقدمة التاريخ، وليس في العربة الخلفية.
هناك يجعلون من الابتسامة، مشطاً، يكنسون به الشعيرات الجافة، والمجعدة، ويجعلون من رؤوسهم مثل قبعة تحميهم من اللظى.
هناك الابتسامة، مظلة يطفو ظلها على الوجوه، فيجعلها بهية، ندية، عفوية، زاهية، لا يعلق بها صدأ التعلق بالماضي، ولا يشوبها غبار المستقبل، هم يعيشون اللحظة كما هي ولا يلونون الزمن برماد ما فات، أو ما قد يأتي.
هناك المرأة الستينية، تمسك بيد زوجها، وتقول له ها أنا هنا، دفئ راحتك، واسترح، ففي عروق يدي، الأزهار تنمو في كل الفصول.