عندما يذكر سن التقاعد، يتجسد أمامك كائن رمادي اللون مثل غيمة الصيف التي تأتي وتترك خلفها الغبار، وأجنحة العصافير المنثورة على الأرض. عندما تسمع عن تقاعد شخص ما، تشعر أن شخصاً ما أصبح مثل قطع الغيار التالفة، أو عربة تدهورت على الطريق بفعل اصطدامها بجناح فراشة. التقاعد فكرة خيالية تختزل جدول النهر، وتلقيه في الأرض البطحاء، فلا ينهل منه طير، ولا ترشف منه شجرة، إنه
الجدول الذي ضل طريقه إلى الحقل. التقاعد هو المسؤول عن خفض حرارة الطقس في الوريد والشريان، وهو المسؤول عن تجفيف منابع الحلم، وهو المسؤول عن حرق الغابات وتشريد الغزلان، وتحويل الأشجار إلى ركام، وعظام الأسود إلى رميم. التقاعد كائن سحري يتسلل إلى الأذهان فيحولها إلى نفاية، وكهوف مهجورة، يحولها إلى مناطق تتوحش فيها البيوت، ويصبح الرجال مثل قطعان فرت من سرح، والنساء آكلات العشب، يمضغن الحشائش اليابسة، ويعلكن لبان الفراغ الممل. التقاعد يذهب بالمتقاعد إلى أرصفة العدمية، ويصور الحياة في عيونهم، مثل قافلة هربت من لظى شمس حارقة.
تقاعد الرجال، يقصر من ألسنتهم، ويطيل من ألسنة النساء. التقاعد يملأ البيوت بدخان التأوهات، والبحلقة في اللاشيء. التقاعد يفتح نافذة، يليها فراغ كتب على صفحاته (نهاية العالم). تخيل أن شخصاً عمل في دائرة أو مؤسسة لسنوات، أصبح هو وتلك الدائرة شيئاً واحداً، وفجأة يكتسحه الطوفان، ولا يجد نفسه إلا خارج الزمن، فماذا يحدث؟ سوف ينكسر جذع الشجرة، وتذبل الأوراق، وتصبح السيقان مثل عوارض خيمة قديمة وتغادر العصافير أعشاشها. هناك زجاجة تنكسر في مطبخ الذاكرة، وهناك أشرعة تتشقق في السفينة، ويصبح البحر كائناً عملاقاً يتخبط على ظهر السفينة. في التقاعد يتسرب شيء من بقع الزيت إلى داخل القفص الصدري، ويتوغل في الأعماق، مختلطاً
بالدماء، حتى تصبح كل الأشياء لزجة، وغير قابلة للمس، حتى وجه الزوجة، حتى كلماتها تصبح غير ذي معنى، لأنك تعيش اللزوجة بكل معانيها. التقاعد ينهي علاقة المتقاعد بالألوان، بل يرى فيها لوناً واحداً، رمادية غائمة. التقاعد يلغي المتقاعد، ويقصيه عن ملعب الحياة، ويقول له أنت هناك، وليس هنا، أنت في العربة الأخيرة التي عطبت عجلاتها.