نظرة إلى الحياة المعاصرة، تفتح أمامنا شلال أسئلة لانهاية لها. نظرة واحدة إلى علاقتنا بالعالم من حولنا، تشير بالبنان إلى ذلك الأفق المتشقق، والذي أصبح ملاءة قديمة. كل ما كان يخيط قماشة النسيج الاجتماعي، قد تفتق، وتشقق، وترتق، وتمزق، وتفرق، وتدفق في الحياة مثل حثالة تندفع من ماسورة مكسورة. اليوم وفي حضرة التطلعات، والطموحات، والرغبات، أصبح العقل مثل العربة التي يجرها حصان أهوج.
اليوم وفي ظل هذا الاندفاع المتسارع للمركبات ذات الدفع الرباعي، وفي خضم الرمال الكثيفة، أصبح من الصعب على الإنسان إيجاد لغة تفاهم مع هذا العقل. عقلنا لم يصبح مادتنا التي تبدع فحسب، بل هو الطائرة المخطوفة التي تعبر الأجواء دون توقف ولا ميناء يفتح لها أرضاً للهبوط. عقلنا المتألق حضارياً، أصبح بفعل هذا الانبهار، مأخوذا من ناصيته إلى محيطات زعانف أسماكها مخالب، وأمواجها جبال. الأمر الذي جعل التناغم مسألة لوغاريتمية معقدة، لا يمكن حلها بضغطة زر، كما يفعل المحاسب في مصرف من المصارف العتيدة.
العقل بعدما وجد نفسه قد تجاوز حدود الرتابة والعفوية، وبعد أن تبوأ مكانة جعلته ملك الملوك على الأرض، وبعد أن ذلّلت له الطبيعة كل أسباب الترف الإبداعي، أصيب بالبله، واجتاحته موجة من الرعونة وجنون العظمة، ولم لديه الجرأة بالتوقف عن الهذيان، ولا صد السيلان المائي الذي أغرق المركب وأصبح في عداد المفقودين.
في هذا العمر الطويل من الحضارات المتعاقبة، على مدى القرون الماضية، لقد توصل العقل البشري إلى أنه سيد الكون، وأن كل ما يفعله المليح مليح، ولا راد لقضائه، ولا مانع لإرادته، ولا كابح لعزيمته، إنه العقل الذي أدبر وتولى، وأعطى ظهره لكل معطيات الطبيعة، وما تتمتع به من جلال، وكمال، وجمال، ودلال، واعتبر أن ما يقوم به هو هبة كونية، عليه أن يستغلها بهذه القناعة الزائفة، أمر العقل الإنساني بأن يفعل ما يشاء، متى شاء، وحيثما شاء.
إذن لا عجب أن نرى الإنسان يحرق الغابة، ليكسب من حطبها المال، وكذلك يفتك بوحيد القرن، ليأخذ من قرنه بضاعة تدر عليه الذهب. لا غرابة أبداً أن يشير العقل إلى الإنسان، بأن هناك شخصاً ما يتربص به، ويتأبط شراً، وعليه أن يتخلص منه. فاقتنع الإنسان وأشعل الحروب، وأبدا، وساد، ولكنه في نهاية المطاف لم يقتل إلا نفسه. لأن العصابي عدو نفسه قبل أن يعادي الآخر.