عندما تجد شاباً يخاف من الظلام مثلاً، فتأكد أن لهذا الخوف صلة بعلاقته بأحد الوالدين. فنحن أغلبنا كان الظلام يشمل بالنسبة لنا حالة مؤسفة، ومؤلمة.
الظلام كان السلاح الفتاك الذي تستخدمه الأمهات، لردع الأبناء، وتحجيم فوضاهم، وإيقاف نزيف الرغبات، وسد فجوة نخوة الاستكشاف التي تبرز عند كل طفل منذ أن يبدأ في الحبو، واستخدام الأربعة أطراف في حركته الدائبة في أنحاء المكان الذي نطوقه بالجدران، والحواجز.
كل مشاعرنا محفوفة بالمخاوف من الزلل الذي تتخيله الأمهات، ولكن هذه المخاوف في حد ذاتها تغرس خوفاً بحجم الجبال في الأعماق. تصبح الأعماق مثل بئر قديمة، تؤمها الحشرات، وبقايا ما تتركه في القاع المهجور.
عندما يقف رجل ناضج مرعوباً من حشرة بحجم الأنملة، وينتفض، ويرتعد فاعلم أن وراء هذا الخوف، أماً أو أباً، زرعا بذرة ليست طيبة في تربة كانت مهيأة لاستقبال كل ما يدب في خواطر الآباء والأمهات.
نحن نخاف، ليس لأننا جبناء، ولأن الفكرة التي أدخلت في رؤوسنا كانت بحد شوكة وخازة، جرحت منطقة ما في وجداننا وظل هذا الجرح، مثل علامة الجدري، وظل مفعولها يطرق أذهاننا، بمطارق الماضي يوم كانت رؤوسنا بحجم البرتقالة، ومشاعرنا بهشاشة القطنة، وخيالنا بسعة العالم.
كنا نتلقف الفكرة مثلما تتلقف أفواهنا قطرات الحليب، كنا تلقائيين إلى درجة السلبية، كنا مستلبين إلى حد الاستسلام، وكان الآباء والأمهات، يمثلون الجبال الشاهقة التي نحتمي بها، ونستقي منها لغة الأحلام، كما نستلهم منهم كتابة الحكاية النهارية التي نسمعها في الليل.
الإنسان ابن بيئته، ونحن كنا في البيئة، جراء صغيرة، نختفي في الليل في الصدور الدافئة، ونبحث عن مخبأ يلف مشاعرنا، ويطوي صراخنا في فوطة التسكين كنا نرى في عيون أمهاتنا، دمعة حائرة ولا نعلم ما سر هذه الدمعة، ولكن عندما تطوينا الأم تحت جناحيها، وتقول للصغير المنطوي بين ذراعيها، نم حبيبي، حتى لا تسمعك أم الدويس، وتخطفك مني.
فيخبو صوتك فجأة، ولا يسمع إلا صوت الفم المفغور، والأنف الصغير الذي ينفث الهواء مع خرير الجدول الداخلي. الآن وأنت في الكبر لماذا يبدو ذلك النقش مثل رسمة سيريالية باهتة، لا تعرف معناها، ولكنك تمارسها بأمانة، وصدق رغم إيمانك بعظم الكذبة، ولكن قلبك الصغير الذي كبر لا زال صغيراً مهما مضغت أنت لبانة الكبرياء، وقلت أنا مقتنع بما سمعته، ولذلك أفكر فيه وأمارسه.