نولد صغاراً مثل فراخ الحمام، صدورنا فارغة من الصور والمشاهد، ونكبر على صدى أصوات دخلت أذهاننا، وبقيت هناك، بعضها يترسب في قاع الذاكرة ولا نعرف كنهه، وبعضها يطفو على السطح، ويبدو مثل صور أقاربنا الذين ماتوا معلقةً على الجدران.
عندما نكبر، تمارس هذه الصور مفعول الزيت في مواقد النار، تشعلنا، وتسعرنا، وتسجرنا، ونصبح بحاراً من أفكار وصور، تتلاطم في وجداننا كأمواج عاتية. نتمسك بهذه الصور ونتشبث بالأفكار، وتصبح هي نحن، ونحن هي.
نذهب إلى العالم الخارجي ونحن ممسوسون بهذه الكتلة الضخمة من الأحمال التي توهن ذاكرتنا، وتملأها بقناعات نكون نحن المسجونين في أقفاصها، وقد نحارب من أجلها، ونخاصم، ونحتقن، ونمتهن حرفة الخلاف مع الآخر، على أساس أفكار زجت بداخلنا ونحن كنا في حال السبات الذهني.
الصغار يتعلقون بما هو ثابت في قلوبهم، وعقولهم، وعندما يكبرون يصبحون في حضرة الصور الوهمية، مثل مرضى البارانويا، أنهم مقتنعون أنهم عقلاء، وأن ما يرقص أمام أعينهم من صور هي حقيقة، ولا مجال للتحول عنها.
عندما يكبر الصغير الذي تخيل في الصغر أن أم الدويس امرأة خارقة، وتملك قدرات فائقة لا تملكها نساء العالم، فإنه يصبح راسخاً في هذه المخيلة، ويصبح مستلباً من جهة فكرة قذفت في رأسه، وأصبحت الفكرة عقيدة، وأصبحت العقيدة تمثل شخصيته، وأصبحت شخصيته هي ذلك الوهم التاريخي، هي ذلك النفاية التي ترسبت في قاع العقل.
كذلك عندما يكبر الصغير، وفي ذهنه الأب الجبار، والمتعنت، لا يمكنه إلا أن يكون في السياق الأبوي نفسه، ويكبر، ومعه تكبر الصورة القاتمة، ولا يرى في العالم إلا تلك الغيمة السوداء التي مرت على عقله، ولم تترك مكانها، وصار الصغير الذي كبر، صورة طبق الأصل لأب في الماضي.
عندما تنشأ الطفلة على يدي أم ضعيفة، بل وأضعف من سعفة، فإنها لا تحتفظ بالصورة كذكرى، تتسلى بها، بل تختزل كل الزمان بهذه الصورة، صحيح أن معظم الذين تقتحمهم مثل هذه الصور، يعانون وخزات مؤلمة، ويبرزون في الوجود مثل دمامل، مليئة بالقيح، ولكنهم لا يستطيعون الخروج من هذه الكهوف، فهناك قوة عظمى، بسلاح الكبت، تقوم بدور مراوغ، وتحمل الأشخاص على التمسك بالصور القديمة مهما بلغت من سطوة، وقوة، لأنهم لا يستطيعون فعل غير ذلك، لأنهم محتلون من قبل الماضي، ولأنهم وقعوا في مصيدة الوهم.