من المبكر تقدير كافة التداعيات والخسائر التي ستنجم عن فيروس كورونا، إلا أنه من المؤكد أنها ستشمل كافة المجالات، وبالأخص الاقتصادية، حيث تنقسم هذه التداعيات إلى مؤقتة واستراتيجية، فانخفاض أسعار النفط والأسواق المالية أمر مؤقت، اذ ستستعيد نشاطها ونموها بعد حين، أما التداعيات الاستراتيجية فسيكون لها عواقب شديدة والتي سيأتي في مقدمتها تآكل الاتحاد الأوروبي وتقلصه بسبب فشله في تقديم العون اللازم لأعضائه في أوقات الأزمات.
أحد أهم أوجه هذا القصور، هو انهيار البنية الصحية لبلدان الاتحاد بصورة سريعة وغير متوقعة، واهتمام كل دولة بشؤونها الداخلية، بل وصل الأمر، للأسف، لشكل من أشكال القرصنة بين أعضائه، من خلال الاستيلاء على البواخر التي تحمل المعدات والمستلزمات الطبية.
حدث هذا الانهيار لسبب اقتصادي مهم، وهو تخلي دول الاتحاد خلال العقود الماضية عن الاستثمار في البنية التحتية للصحة وخصخصتها، وهو ما حدث للأسف مع التعليم، مما خلق وضعاً غير قادر على التعامل مع الأزمات، فقطاع الدولة الصحي غير مؤهل، أما بالنسبة للقطاع الخاص، فإن الأمر تجاري بحت، أي «ادفع أولاً».
في هذا الجانب، يمكن الإشارة إلى التجربة الخليجية الناجحة، والتي أثبتت فعاليتها في أزمة فيروس كورونا لتشكل مثالاً تقتدي به بقية دول العالم. فقبل أربعين عاماً، كنتُ أعمل بوزارة التخطيط بالعاصمة أبوظبي، حيث يتم إعداد موازنة الدولة السنوية، والتي خصصت معظم مواردها منذ ذلك الوقت وبنسبة كبيرة تتراوح ما بين 40-45% لوزارتي الصحة والتعليم، وهو وضع مشابه لموازنات بقية دول المجلس.
على مدى أربعة عقود، تم تدشين بنية صحية وتعليمية راقية أثبتت فعاليتها في الأزمة الأخيرة، ما أدى إلى إنقاذ آلاف الأرواح من المواطنين والمقيمين، إذ كانت خدمات القطاع الصحي وبنيته المتطورة تثير الإعجاب، لإمكاناتها وإدارتها للأزمة بتوجيهات عليا وبتدخل مباشر منها، إذ اتخذت إجراءات لمعالجة المصابين ومحاصرة انتشار الفيروس وتوفير كافة المستلزمات الطبية ونشر الوعي الصحي لتفادي الإصابة، إذ ربما تكون دول المجلس الوحيدة في العالم التي لم تعانِ من نقص في هذه المستلزمات، بل إنها قدمت إعانات كبيرة للدول الأخرى، بما فيها الأوروبية.
وحتى لا تختلط الأمور ويتم فهمها بصورة صحيحة، فقد تطور بصورة مرافقة الطب الخليجي الخاص وساهم في تطور الخدمات الصحية، إذ أن خطأ الغربيين لا يكمن في ذلك، وإنما في خصخصة الخدمات الطبية العامة، وهناك فرق كبير بين وجود الخدمات الصحية الخاصة، وهو أمر مطلوب وإيجابي، وبين تقليص الخدمات الصحية الحكومية وخصخصتها، وهو الخطأ الذي وقعت فيه دول الاتحاد الأوروبي وأميركا الشمالية، فالعديد من الأمور يمكن التلاعب بها، إلا شيئين لا يمكن العبث بهما إطلاقاً ويجب توفيرهما مجاناً للجميع، وهما الصحة والتعليم، وذلك حتى لا يتم تحويل المجتمع إلى مجتمع جاهل وعليل.
أما بالنسبة لانهيار البنية الصحية في بعض الدول الإقليمية الكبيرة، فإن ذلك يرجع إلى إهمالها للخدمات العامة، وبالأخص الصحية وتركيزها على أنشطتها الخارجية وتمويلها للمليشيات.
لذلك، فإن التجربة الخليجية والتي أثبتت قدرتها ونجاحها في مثل هذه الأزمة الكبيرة تمثل قدوة، فالإجراءات المتخذة في المدن والمستشفيات والمطارات والمرافق العامة الخليجية محل تقدير وإعجاب، حيث عومل الجميع بصورة إنسانية راقية ومتساوية، وذلك إذا استثنينا استهتار قطر بصحة مواطنيها ومواطني دول المجلس من خلال استمرارها في تسيير رحلات الطيران إلى الدول الإقليمية الموبوءة.
تحية شكر وتقدير كبيرين للقادة وللحكومات الخليجية، فقد كنتم على قدر كبير من المسؤولية لاهتمامكم بمواطنيكم وبكل مقيم في بلداننا العامرة، دول التعاون «برافو».
*مستشار وخبير اقتصادي