استفاق العالم كله على واقعه، بعيداً من حقائقه وابتكاراته التكنولوجية وصواريخه الشتّى من عابرة للقارات إلى البالستية، خرج من مختبراته وصناعاته الوبائية، الفتاكة، من قنابل جرثومية إلى كيماوية. من تجاراته المعولمة باقتصاديات العالم، ومن ذهنية امتلاك الطبيعة ومكوّناتها، وتوازناتها. فجرّب ما جرّب منها وشلّ قوانينها المليونيّة وفتح غازات مصانعه السامّة على الفضاء والهواء والماء والأنهُر... فهدّد حتّى وجود الأرض.
استفاق من وهمِ عظمتهِ وطموحاتهِ، بالأحادية، والاستبداد والاستغلال، أي: تسخير العلم والعقل وقدراتهما ضدّ الطبيعة، والإنسان، ووجود الكائنات نفسها. اكتشف فجأةً أنه أصغر من أحجامه، أَعْجَزْ من قوّته. جاء الضيف الثقيل من حيث لا يدري، من حيث لا يتوقّف، من حيث لا يُلْجَم، إنها أزمة العقل المدمّرة، تستيقظ على خرابِها، فكابَرَ مَن كابَرَ، في أوّل الأمر، فكرامة الأنظمة، ديمقراطيةٌ أو استبدادية، مذهبية أو علمانية، لا تمسّ، ولا تسمح باستنبات هذا الفيروس: الصينيون نفوا وجوده. وتوفي الطبيب الذي أنذر بفداحة ما اكتشف، وشاع الوباء أسرع من كل التكنولوجيات ووسائل الاتصال وسرعة الضوء والعتمة والموت، فاستدركوا وحاولوا حصر الفيروس عبثاً، وعزلوا ما عزلوا من عشرات الملايين، ثم تمكنوا بفعل اعترافهم بالحقيقة -أي الصينيون- من حصره فباتوا مثالاً يُحتذى به في المعالجة والانضباط، بعدما كانوا، بسبب غياب شفافيتهم، عاراً على أنفسهم وعلى إمبراطوريتهم وعلى اقتصادهم.
ثم انتقل الفيروس إلى أنظمة أخرى كابرت أو استهانت، كإيران وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة. فهذا الفيروس لم يستقرّ في أمكنة ظهوره، فهو بات عندهم يرونه من خلال إدراكه شعوبهم، ومكانتهم وامتيازاتهم. لم تستطِع العولمة حمايتهم، سقطت مفاعيلها، وباتت أَكثر هَشاشة من عمارة كرتونية، وقد «كَوْرَنها» الفيروس بدلاً من أن تُعَولِمه على طريقتها. هَبّوا كلهم إلى حيث يجب أن يهبوا، إلى العقل، والعلم، وليردّوا غضب الطبيعة عنهم، الطبيعة الحيوانية واهتزاز توازن الفصول. أخيراً، ركزوا حيث أهملوا طويلاً خدمة الوجود الإنساني، وها هم يتسابقون في مختبراتهم ومخزوناتهم من التجارب السابقة والآنية على علاج هذا الفيروس: سباقٌ محموم يزدوج بين استعادة الكرامة والقضاء على الوباء. من ألمانيا إلى الولايات المتحدة والصين، لكن كورونا يتلاعب بهم كما تلاعبوا في علاقتهم بالحيوان والماء والهواء.
أفْلتَ كل شيء من قبضاتهم الرّخوة، ومن مزاعمهم: السيطرة والهيمنة، فالعالم أعزل ومعزول، وحاجر ومحجور، فَرُغَتْ ساحات الحضارة، وكأنها من أطلالٍ أو ركامٍ أو عدم. لكن، وبرغم كل تلك التواريخ المُخزية حول أسبقيات وسائل القتل والإبادة، والتناحر السياسي والاقتصادي، ها هو العالم اليوم بشعوبه وأنظمته يتحاور للمرة الأولى، يتضامن على اختلاف، يتآزرُ على ارتياب، ليحسروا انتشار هذا الوباء. لم يعُد من جلّادٍ ومن ضحية، ومن منتصر ومهزوم، بل بين عاجزٍ وعاجز. فمِن العَجزْ وشعوره، ومن العزل وخسائره ويأسه ينبثق ما يُسمّى المساواة والمصير المشترك، والاجتماع على أهدافٍ مشتركة. إنها من صُنف الإحساسات، من صُنف الذهنيات، المُستَفذَّة بمستحقّاتها وأواصرها. لا مَن يَشْمُتْ، ولا مَن يَفرح، الكلُّ في الكارثة نفسها. هل يمكن القول إن العالم «عقله»، العالم و«طبقاته الشعورية»، العالم و«قرائحه الإنسانية»، قد وعى حجم أخطائه ومرتكباته ليرسم من جديد جغرافياته السلمية، وأحلامه الإمبراطورية؟
لا ندري ذلك، لأن ما نعيشهُ قد لا يحتمل هذه التحاليل الأخلاقية الآن، فالعالم مُصاب بحُمّى الفراغ والتوتّر والخشية. هل يدفع هذا الفيروس إلى إعادة الإنسان في هذه التناقضات الكونيّة إلى مخزوناته الإنسانية؟ أم أنها مرحلة كغيرها من المراحل التي عَرفَ فيها أوبئةً أقسى وأشرس وأكثر قْتَلاً... كأننا في انتظار «غودو» جديد، فهل يكون بقَسَمَات وملامح الماضي أو المستقبل؟
*كاتب لبناني