يشهد العالم مرحلة مخاضٍ وميلادَ نظام دولي لما بعد أزمة فيروس كورونا، في ضوء تحولات اقتصادية وسياسية آخذة بالتشكل، خاصة فيما يتصل بدور الدولة الوطنية والمنظمات الدولية، في ظل ما أظهرته سياسات مواجهة انتشار الوباء، والذي أعاد في الأسابيع الماضية تشكيل التوازنات بين القوى الكبرى الفاعلة على المسرح الدولي، كما أعاد صياغة العلاقات الدولية، فالولايات المتحدة والصين تدخلان مرحلة هدنة حذرة، والأمين العام للأمم المتحدة (غوتيريش) يدعو إلى وقف لإطلاق النار في كافة أرجاء العالم بغية التفرغ لمواجهة كورونا، قائلاً: إن «العالم يواجه عدواً مشتركاً (كوفيد -19)، لا يكترث بالجنسية أو العرق أو الفصيلة أو الإيمان، بل يهاجم الجميع بلا هوادة»، وتستعد دول العالم لوضع مبادرة تهدف لتلبية نداء غوتيريش، وينتظر أن تتم صياغة مشروع قرار لمجلس الأمن، يدعم وقف النزاعات في أنحاء العالم للتفرغ لمواجهة جائحة كورونا.
ومنذ بدأ انتشار الفيروس في ديسمبر 2019 بمدينة «ووهان» الصينية، وقبل تحوله إلى وباء عالمي، نشطت نظريات المؤامرة، والتحليلات السياسية المختلفة، فاعتبره البعض حرباً بيولوجية على الصين، في إطار التنافس الدولي والصراعات الاقتصادية العالمية، بيبنما اعتبره البعض الآخر لعبة لتقوية الاقتصاد الصيني، بالتخلص من ثقل الاستثمارات الغربية في الصين، وتغزل محللون غربيون بنموذج «الدولة التسلطية» في إدارة الأزمة الصحية، مقابل ضعف أداء الأنظمة الديمقراطية في الغرب، حيث ساهمت السياسات النيوليبرالية منذ أيام الثنائي رونالد ريجان ومارغريت تاتشر في الثمانينيات في إضعاف الأدوار التقليدية للدولة، مطلِقةً العنان لمجتمعات الاستهلاك وسياسات السوق، ثم وجدت لها تطبيقاً عملياً في فكرة «مناعة القطيع» لمواجهة كورونا، كما تبناها رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، قبل تراجعه عنها بخطوات، وهي تعني أن دور الدولة ثانوي في حماية المجتمع من تفشي الوباء، وأن المسؤولية فردية بالأساس، حيث تراجعت الدولة في أوروبا عن دورها في تقديم الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمواصلات، مفسحةً المجال للقطاع الخاص، وباختصار فقد أظهرت أزمة كورونا حقيقة الأنظمة الصحية والوقائية في العديد من الدول، ومعها تراجعت الأطروحات الفكرية التي استندت لها تلك الممارسات، متيحةً المجال لاستحداث صيغة توازن بين أدوار الدولة وحرية السوق، على نحو تصبح فيه لحياة الإنسان الأولوية.
ومع تفاقم الأزمة، وتحول الولايات المتحدة إلى أول بلد من حيث عدد الإصابات، شهدت العلاقات بين بكين وواشنطن تطوراً نوعياً، وأظهرت أميركا لهجة تصالحية مع الصين، عقب اتصال هاتفي بين زعيمي البلدين، بعد أن ساد التوتر بينهما لبعض الوقت، حيث وضعت أزمةُ كورونا العلاقات الأميركية الصينية تحت المجهر من جديد، وكان الرئيس الأميركي (ترامب) ووزير خارجيته (بومبيو) قد ظلا يستخدمان عبارة «الفيروس الصيني»، مثيريْن غضب بكين، وواصل ترامب اتهاماته للسلطات الصينية بتأخير الإعلان عن معطيات هامة متعلقة بالفيروس، كان يمكن (بحسب ترامب نفسه) أن تساعد في منع تفشيه، كما وجه بومبيو الاتهام للصين بالتضليل والمشاركة في حملة على وسائل التواصل الاجتماعي، تضمنت نظريات مؤامرة، مفادها أن الولايات المتحدة كانت وراء الفيروس الذي تم اكتشافه لأول مرة في «ووهان».
وبعد كل هذه الاتهامات المتبادلة، بدأ تقارب حذر قد يؤسس لمرحلة جديدة من إعادة إحياء قيم التضامن العالمي فرضتها جائحة كورونا، لقد أعادت الجائحة صياغة الركائز السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية للنظام الدولي الراهن، وأكدت مجدداً على حقيقة أن الحياة البشرية في هذا العصر متشابكة ومترابطة، تتأثر وتؤثر في بعضها البعض في زمن عولمة الأمراض والأوبئة.

*كاتبة إماراتية