بحت أصوات كثير من الفلاسفة والمفكرين والكتاب وحكماء السياسة، وهم يطالبون البشرية بالسلام الدائم، ويتحدثون عن المستقبل المشترك، لكن الدول الكبرى استمرت في نزعتها الاستعمارية، وغذت الصراعات في العالم الثالث، ولوثت الكوكب بمخلفات صناعية. الآن جاء كورونا ليعلمنا أن الناس كلهم في قارب واحد.
سأقول شيئا واحدا بسيطا في هذا المقام، بعيدا عن الفلسفات العميقة، وهو أنه لو أن في العالم كله أجهزة تنفس صناعي بعدد الدبابات والمدافع والطائرات الحربية والغواصات والبارجات، ما عجزت مستشفيات في الغرب عن استقبال حالات حرجة مصابة بكورونا. لقد جهزت الدول الكبرى الضالعة في بيع السلاح ترسانات لمحاربة عدو محتمل ومتوهم، فهاجمها جميعا عدو لم تستعد له، ولا تريد.
لقد امتد الجدل حول كورونا من هذه الأفكار النظرية العميقة إلى اليومي والسائد والمتاح، وسأضرب مثلا هنا بحوار دار بيني وبين صديق، حيث قال لي: لا أصدق لعبة كورونا، فقلت له: بعد كل ما حصد من موتى ومصابين يجب أن تصدق. صمت وقال: لا يهمني، إن أُصبت سأنجو لأن مناعتي قوية، فقلت له: ستتحول إلى جسر يحمل الفيروس إلى أحبائك وأهلك، ومنهم من سيموت لضعف مناعته، وتُكتب عند الله قاتلا وهذا من أكبر الكبائر فكر قليلا، عندها اقتنع بأن الالتزام بالوقاية واجب.
جدل ثاني دار مع شخص حول الدين والوباء، حيث قال لي: من حق الناس التضرع إلى الله في مواجهة الوباء، فقلت له: طبعا، سبحانه هو المستعان دوما، لكن المشكلة فيمن يجزم بأن كورونا انتقام إلهي، فالله رحمن رحيم قبل أن يكون منتقما جبارا، وإن انتقم فمن العبث أن يزعم فصيل أن الانتقام لهم، أو يستغلون ما نحن فيه لتحقيق مكسب سياسي عابر رخيص.
في هذه النقطة دار جدل أشمل حول منع الصلاة في المساجد خصوصا صلاة الجمعة، وهنا أقول إن الإسلام قد حسم الأمر، فالقرآن يقول: «إينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله»، والرسول يقول «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»، وقديما قال ابن عربي: «كعبتي في قلبي»، وحديثا قال زكي نجيب محمود مخاطبا كلا منا: «أنت المسجد والساجد. ففي أي مكان تصح صلاتنا».
لقد أقر فقهاء المسلمين بقواعد واضحة من قبيل: «الضرورات تبيح المحظورات» و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وعلينا أن نسأل أنفسنا: من يقيم الدين إن هلك الناس؟ وهل الأديان للبشر أم عليهم؟ ومن الذي بوسعه أن يزعم أنه يمثل مشيئة الله وكلمته؟ ومن تزهق روحه في دار عبادة ففي عنق المتنطعين الذين يرفضون أو يغبنون من قرار وقف الصلاة في المساجد، ولا يريدون قبول الشعار المرفوع الآن وهو «العزلة هي الحل حتى الآن»..
إن العالم كله أمام حرب ضروس، مواجهتها في يد «الجيش الأبيض» من العلماء والأطباء والممرضين وكل من يساعدهم، وعلينا جميعا أن نوجه تحية عظيمة إلى هذا«الجيش الأبيض» الذي يقف أفراده على الخطوط الأمامية في واحدة من أكبر وأعتى الحروب في تاريخ الإنسانية. وعلينا أن ننصت إلى المختصين وقادة الرأى الناصحين الذين يثق الناس فيهم وليس عند الذين لا يرون إلا تحت أنوفهم ولا يحرصون إلا على أنفسهم.
إن كورونا لا يفرق بين من هو مع السلطة ومن يعارضها، ولا يفرق بين يساري ويميني، وأيا كان سببه: حرب جرثومية أو إنتاج البيئة أو قدر من الله، فإن نتيجته واحدة وهي الأهم لنا، ألا وهو أنه وباء خطير، لن يفيد الجدل حوله ويصبح من غير الأخلاق أن يتم استغلاله سياسيا سواء في التنافس الدولي أو الصراع الطائفي أو اقتصاديا عبر تجار الأزمات والحروب هنا وهناك.
*روائي ومفكر مصري