اللافت في هذه الأزمة المأمول انقشاعها عما قريب - بإذن الله – هو تصاعد أو انكشاف أنواع أخرى من طراز «كورونات» فكرية، يعتبر استمرارها أكثر خطورةً على العالم، من ذلك الفيروس الذي يعد أيامه.
ففي الوقت الذي تتخذ به دول العالم أحزم الإجراءات والقرارات للحد من قفزات فيروس كورونا (COVID-19) «المجنونة»، من إغلاق للحدود والمعابر، وتحسيس الرأي العام بخطورة استمرار انتشاره، وإغلاق المؤسسات التعليمية، والترفيهية، والوجهات السياحية، وإيقاف للمطارات، وتطبيق الحجر الصحي بشقيه (الاختياري والإجباري) للمصابين والمشتبه بحالتهم، وتفعيل قانون الدفاع في بعض الدول الذي قد يؤدي لحظر تجول كامل، يذكرنا البعض بالاكتفاء بالتحديق في سبابَتك حين تشير للقمر! فيزايد بعض «المتنطعين» على القرارات التي تنبثق من النواحي الدينية، من إغلاق دور العبادة المؤقت الذي لم يختلف عن القرارات السابقة بهدفه الساعي لحفظ الأرواح، وإما أن يكون ذلك التنطع بدافع العناد أو الجهل بانبثاق تلك القرارات من رحم العقيدة، وأسمى تعاليمها في إعلائها لصون النفس فوق كل اعتبار، وانطلاقاً من مقاصدها بحفظ الضروريات الخمس (حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال). وجهلاً بمقاصد الشريعة، ومدارك الفتوى، وأصول الاستنباط!
حقيقةً، لا يستحق أمثال هؤلاء الإطالة عنهم، فهم عبارة عن نماذج صدّرت نفسها بنفسها وتكلمت عن نفسها، ووضعت ذاتها في مكان لا يليق بها، فالمراهنة الآن لا تقف على من يحتكم بأرواح البشر، بل على عقول اتحدت في دول العالم، التي وجدت ثمارها من مواطنين واعين، لديهم حس مسؤولية وإدراك للوضع العالمي، وما قد ينتج عنه والإصغاء للقرارات والاستجابة لها، بل والمشاركة في حل الأزمة وتقديم التبرعات السخية، لذا فإن الأولى في أوقات الأزمات تقدير الجهود التي تضخها المؤسسات والجهات الرسمية والشعبية واحترام ما يسخر لها من جهود ومواصلة في المتابعة، وتكاتف الأدمغة المدركة بأن الهدف الآن هو اجتياز المحنة، لا التنافس والتسابق على إشهار النفس بالتصريحات الشاذة والمخالفة المستفزة والمستهترة بجهد العلماء، وطاقات الكوادر الطبية الجبارة، وحرص الحكومات على صون شعوبها من الأوبئة ودرئهم عن المخاطر، وما تقدم من مواقف مشرفة.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، أن الشخص الذي يتغاضى عن كل الجهود والتضحيات المقدمة في سبيل إيقاف نزف ضحايا هذا الفيروس، ويصب سمه تشتيتاً للجهود، وسيراً عكس اتجاه «حل الأزمة» من يعتبر نفسه؟
فلقد جاء في مختصر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي المالكي (ت776ه) ذكر الأعذار التي تترك الجمعة والجماعة بسببها ما نصه:«... وعذر تركها والجماعةِ شِدَّةُ وَحَلٍ ومطرٍ وجُذامٍ وإشرافُ قريب ونحوه...» اذ يقاس وباء كورونا، الذي يجتاح العالم، على الجذام كعذر شرعي في ترك الجمعة والجماعة في المساجد والصلاة في المنازل، كما يكفينا الامتثال لحكم وعبر القرآن العظيم في قوله تعالى: «حَتَّى? إِذَا أَتَوْا عَلَى? وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»، فإذا التزمت النملة مسكنها خوفاً من الهلاك، فما الذي يفترض ممن فضله وكرمه الله بالعقل؟!
وختاماً، لا ننفك عن الدعاء والتضرع لله لرفع هذا الوباء عن البشرية جمعاء، راجين منه تعالى أن يحفظ ولاة أمرنا ومؤسسات دولنا وأفراد مجتمعنا الواعي، القائمين جميعاً على تسطير عطاءات التضحية والتفاني والإخلاص في سبيل وقف انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، وشاكرين الله تعالى على المنح المتربعة في قلب المحن، فقد علمتنا هذه الأزمة أن الإنسانية تعلو ولا يعلى عليها في الأديان كافةً، وأن الأرواح هبة لا يَعظمها عطية، وأن النظافة أساس لابد من إرجاعه في القلب والقالب، وغيرها الكثير....«وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم».
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة