تتخذ بعض الطرق الصوفية بين أورادها وأناشيدها قصيدةً يقول بيتها الأول: اشتدي أزمةُ تنفرجي/ قد آذنَ ليلُكِ بالبَلَجِ. وما تذكّرتُ الشعر والبيت الحافل بالأمل والثقة بالله عزّ وجلّ، بسبب الأزمات والجوائح المتكاثرة فقط، بل ولأنه وقع بين يديَّ كتابان أحدهما قديمٌ نسْبياً (صدر بالألمانية عام 2005) عنوانه «الزمن المختوم، حالة الركود في العالم الإسلامي» لدارس اسمه دان دينر، والآخر أحدَث (صدر عام 2010) عنوانه «إغلاق العقل المسلم، كيف صنع الانتحار الفكري الأزمة الإسلامية الراهنة» لدارسٍ غربيٍ آخر اسمه روبرت رايلي. وكنتُ قد قابلتُ مؤلّف الكتاب الأول وقد نصحني بقراءته!
نحن اليوم، مثل سائر الناس محشورون في بيوتنا، ولا عمل إلا التسلّي بالقراءة. الكتابان متشابهان في المضامين، والفرق أنّ مؤلّف الأول يزعم أنه يساري، لذلك يطرّز أحكامه المطلقة بأحاديث سطحية عن «التطور التاريخي»، فيما يصرُّ رايلي على أنه يكتب تاريخاً للفكر والثقافة في المجتمعات الإسلامية الوسيطة! وخلاصة قصتهما أنّ الإسلام أصلاً يمثّل انغلاقاً للعقلية السامية، وإنما شهدت قرونه الأولى نفحات من العقلانية والتنوير، جاءته من الترجمات عن اليونانية! ومن تلك النفحات ظهرت عقلانية فلاسفة الإسلام، كما ظهرت تنويرية المعتزلة. ثم يتنافسان في تقليل قرون النهوض.
لكن أين ذهبت مواريث السريان واليونان؟ ظهر أهل السنة المتعصبون فقضوا على عقلانيات الفلاسفة وتنويريّات المعتزلة، وجاء الحكام المستبدون من السلاجقة والمماليك والعثمانيين، فلم يتركوا سَبَداً ولا لَبَداً كما يقول المثل العربي، إلى أن وصلنا في الأزمنة المعاصرة إلى القيادات الدينية الظلامية التي تريد إعادتنا إلى «الإسلام الأول»، بين إغلاق العقل والزمن المختوم والمصير المحتوم!
إنّ هذا العرض التاريخي أو اللاتاريخي ليس جديداً بل هو واحدٌ من العروض الكثيرة التي بدأت مع المستشرقين في القرن الـ19، وكانت تهدف لتسويغ الاستعمار وإعطائه مهمات حضارية من خلال سيطرته العسكرية والثقافية. فلا مخرج من الدين المختوم والزمن المختوم إلاّ بالاستيلاء التنويري الغربي تماماً مثلما خرج الأوروبيون من عصورهم الوسطى الظلامية. ولم يرد على هذه الأحكام إلاّ مؤرخو العلوم الذين كانوا ينشرون ويكتبون حول النهوض العلمي والحضاري الإسلامي حتى القرن الـ18! وفي العقود الأخيرة، وبعد نشْر آلاف المخطوطات العلمية والرياضية والطبية والتاريخية والأدبية، ومن جانب العلماء الغربيين والمسلمين، ظهرت مؤلّفات تتشابه عناوينها ومضامينها تقول: ما كان في الإسلام عصورٌ وسطى! وقد سبقتهم إلى ذلك مدرسة «الحوليات» الفرنسية لتقول: بل وما كانت في أوروبا أيضاً عصورٌ وسطى! فتنويريات القرنين الـ17 وال18 إنما تكونت في «ظلمات» ما جرى الزعم بأنه عصورٌ وسطى، وتحت تأثير النهوض العلمي والحضاري الإسلامي!
الأستاذ الألماني توماس باور يذكر في كتابه الصادر عام 2018 («لماذا لم تكن في الإسلام عصورٌ وسطى؟») أنّ أيديولوجيا العصور الوسطى في الإسلام ما تزال قويةً وصلبةً ولا تأبه للتاريخ ولا للوقائع. ويورد اقتباساتٍ من كتب وخُطب وبرامج تلفزيونية معاصرة تُردّد هذه المقولات في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وكان قد رأى في كتابه الآخر الصادر عام 2014 (ثقافة الالتباس)، أنّ الثقافة الإسلامية الكلاسيكية شبكةٌ حضاريةٌ ضخمةٌ وهائلة الاتساع والتعدد، ولا علاقة لها بانطباعات الغربين عنها. بيد أنّ تغيير الانطباع عن الإسلام وعن أهل السنة صُنّاع تلك الحضارة، لن يصنعه الدارسون وحدهم، بل يصنعه التقدم في حاضر العرب والمسلمين.
قد يكون ما قاله باور صحيحاً، لكنه ليس ما يشغل الآن، بل الذي يشغل في خضمّ الجوائح المتكاثرة، أنّ مثقفينا الكبار في العقود الأخيرة كتبوا وفكّروا بنفس الطريقة التي كتب بها دينر ورايلي بشأن القطيعة مع الموروث من العصور الوسطى المظلمة.

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية -بيروت