يتميز العمران الحضري بوجود الدول والملوك والمراتب السلطانية. وكما يقوم العمران ويزدهر فهو يذبل وينهار، وكما يولد ويشب فهو يهرم ويموت. ولا ينشأ الملك والدولة في الحضر بالعصبية القبلية بل بالطبقات الاجتماعية والقوى والمذاهب السياسية. وقد يقوم الدين أو الدعوة الدينية بدور المذاهب السياسية أو بدور العصبية القبلية.
والدول في العصور السابقة كانت تضم عديداً من الممالك والأوطان. هكذا كان الحال في الدولة الأموية والدولة العباسية. وكلما تعددت الأقوام قلّت سلطة الدولة المركزية عليها وتحولت إلى سلطات لا مركزية، كما حدث في أواخر الدولة العباسية وفي الدولة العثمانية.
والدول لها أعمار مثل الأفراد، النشأة والتطور والاكتمال. الترف في بداية الدولة قوةٌ، وفي نهايتها ضعف. وفي كل مرحلة تتغير أخلاق الناس وعاداتهم. تشيّد الدولُ الآثار الضخمةَ في قوتها وتتوقف عن ذلك في ضعفها. وكانت الدول في قوتها تستعين بالموالي، فيحدِث ذلك ردة فعل على الملوك من الأقوام في الأقاليم، وربما سيطروا عليها دون أن يطالبوا بلقب الملك.
ويبدأ انهيار الدول بانقسام الواحدة منها إلى دولتين، وإذا بدأ فإنه قد لا يتوقف. ويقع الخلل من جهة العصبية والمال. فالعصبية دعامتها الجند، والمال منه تستمد الرواتب والعطايا للجند وباقي الموظفين وسكان الإمبراطورية. فلو ضعُفت الدول عسكرياً واقتصادياً فإنها تنهار. وتتجدد الدول إما باستقلال عامل (والي) من عمالها فيستولي على السلطة المركزية، أو بخروج أحد الأفراد من داخلها ليستولي عليها، وعادة ما يكون من الأطراف. ويستولى على المركز بالمطاولة (أي بالتحدي) وليس بالمناجزة (أي الحرب). وفي آخر أعمار الدول، وبالرغم من وفرة العمران، يكثر الموت بسبب أمراض «الحداثة» نتيجة للصناعة والكيماويات، وقد يكثر الجوع نتيجة لسوء توزيع الدخل.
وإرهاف الحد مضر بالمُلك ومفسِد له، وهو الحساسية الزائدة، فالمُلك يتطلب حكمة وكياسة. والملك بطبيعته أخذُ الناس بأسباب الطاعة ومنها القهر، وهو الذي يمنع من ظلم الناس بعضهم لبعض، ويقضي حوائج الجميع.. وهذا من أهداف إنشاء الدول والأمصار. والمُلك الكبير يشيّد المدن والأمصار، والهياكل العظيمة قلّما بناها ملك واحد بل تستمر عبر عدة دول، وتشهد بذلك المساجد والآثار العظيمة في العالم.
ومن الواضح أن ابن خلدون كان يفكر في الإطار العقدي الأشعري، وأن عماد الدولة وركيزتها الرئيسية بالنسبة له هو الإمام أو السلطان، وهو ما لا يختلف أيضاً عن التصور الشيعي، فالإمام الحاضر إمام الدولة القائمة (الدولة السنية)، والإمام البديل هو الإمام الغائب (إمام الدولة الشيعية). فلا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يهزم الواقع إلا المثال، ولا يزحزح العقل إلا الخيال، ولا ينتصر على الحاضر إلا المستقبل.. والإمام الغائب أكثر إغراءً للعامة من الإمام الحاضر. وكما قال الفارابي من قبل، في كتابه «آراء أهل المدينة الفاضلة»: سواء قلتُ الإمام أو السلطان أو الملك أو الأمير.. فإنني أعني وظيفة أخذ الأمر باليد، والسيطرة على الناس بالحكم، وتصدّر الجماعة بالرئاسة. والملك أو الرئيس مازال هو أمير المؤمنين، ومازال تصور الملك قديماً أو رئيس الجمهورية حديثاً هو تصور العلاقة بين الراعي والرعية، بين الرئيس والمرؤوس، بين الآمر والمأمور، بين القائد والمقود.


*أستاذ الفلسفة -جامعة القاهرة